لا يوجد أي حديث بين ال​لبنان​يين حالياً الاّ بشأن الإقتصاد: هل ينهار البلد؟ هل يتراجع سعر صرف ​الليرة اللبنانية​ أمام ​الدولار​؟ لماذا تتخذ ​المصارف​ إجراءات عقابية؟.

يروي أحد الإقتصاديين عن محاولاته سحب أجور موظفيه كما جرت العادة في نهاية كل شهر من مصرف يودع به حساباته، لكن ادارة المصرف إمتنعت عن سحب مبلغ يفوق ٢٠٠٠ دولار، فما كان به الاّ أن حاول التوسط لدى مالك المصرف، لكن الأخير إمتنع ايضاً. تتكرر تلك الواقعة على مدار الساعة، غير أن المسؤولين في القطاع المصرفي شدّدوا على عدم تلبية مطالب المودعين، مما أربك مدراء فروع المصارف الذين يرتبطون بعلاقات ودّية مع زبائنهم: لا قدرة لهم للحفاظ الآن على تلك العلاقة. مما سبّب غضب بعض المودعين وإتخاذهم قرارات تحويل الودائع الى مصارف أخرى رغم أن الاحوال هي ذاتها.

فإلى متى يبقى هذا الواقع؟ لا أحد يملك الجواب، فلم تشكّل الحكومة خلية ادارة أزمة مالية، ولم تطلع اللبنانيين على مسار الأزمة، ولا حول سبل الحل، بل تركت المواطنين يتخبطون بين إرباك مصرفي و شائعات يومية، أدت الى توجه اللبنانيين للإستحصال على عملة الدولار ووضعها في خزائن المنازل، مما سبب تجميد حوالي مليار دولار في تلك الخزائن الخاصة خشية ما تحمله الأيام من صعوبات اقتصادية ومالية.

ما هو متوفر من معلومات حتى الآن يقوم على اساس وجود أزمة، لكنها ليست كارثية ونهائية، فالحل مشروط بتطبيق مقررات حوار بعبدا الإقتصادي وتنفيذ الحكومة لواحد وعشرين بنداً تم الإتفاق السياسي بشأنها. علما ان النتائج لن تظهر فوراً، بل تحتاج الى وقت لا يقل عن ستة اشهر بحسب الخبراء والعارفين. مما يعني ان الواجب يقضي بأن يتأقلم اللبنانيون مع الواقع الحالي، والعمل معاً لتجاوز قطوع صعب، عبر التخفيف من الصرف على الكماليات وحصر المصروف بالضروريات.

حاول ​مصرف لبنان​ ابعاد قطاعات النفط والأدوية والطحين عن تداعيات الأزمة، بإعتبارها مواد أساسية يومية. وبما ان ​الاقتصاد اللبناني​ ريعي وليس انتاجياً، سيحصل ارتفاع لاسعار السلع المستوردة التي يدفع لبنان اكلافها بالدولار. مما يحتّم الارتكاز على الإنتاج المحلي وتعزيز الصناعات اللبنانية وعدم سحب الدولار الى الخارج.

كل المخاوف بين المواطنين تقوم على اساس فرضية انهيار البلد إقتصاديا وماليا، لكن الدخول في تفاصيل الواقع المالي يؤكد الاّ انهيار في لبنان: اولا، يمتلك مصرف لبنان عملة صعبة بالدولار رغم التقشف الشديد المفاجئ في صرفها الآن. ثانياً، يمتلك لبنان مخزوناً وفيراُ من احتياطي الذهب. ثالثاً، تملك الدولة اللبنانية مساحات شاسعة تستطيع بيعها لشركات أجنبية تتمنى شراءها للإستثمار فيها. رابعاً، يملك لبنان شركات وقطاعات في الاتصالات والمطار والمرفأ والكازينو تقدر على إشراك القطاع الخاص بها، مع المحافظة على القرار فيها من خلال الحصة الأكبر. خامساً، يستطيع لبنان ان يجري إصلاحات جوهرية تسمح بإستلام هبات ومساعدات مالية وقروض ميسرة من خلال مؤتمر "سيدر" المجمّد.

لكن هل هناك قرار سياسي دولي بترك لبنان او منع مساعدته؟ هناك من يقول ان الولايات المتحدة الأميركية تريد أن يشعر اللبنانيون بأزمة مدروسة لفرض تنازلات قوى سياسية في ملفات إقليمية، بدليل منع التحويلات المالية الى لبنان، ووضع عقوبات على "​حزب الله​" والتهديد بفرض عقوبات اضافية بحق حلفاء له، وكيفية تعامل الأميركيين مع "جمّال ترست بنك" الذي زاد من عمق المخاوف اللبنانية. يضيف هؤلاء أنفسهم في مجالسهم أن التوقيت حاليا يسبق الاستثمار اللبناني في ​النفط والغاز​ الذي يضخ أموالاً في ​الخزينة اللبنانية​. مما يعني أن الأزمة القائمة هي موقتة من دون قدرة أحد على وضع جدول زمني لمسار الخروج من الهوّة الحالية.

لا يقتصر الأمر على لبنان، بل ان معظم عواصم العالم تعاني من أزمات مالية-إقتصادية، فتزيد من حجم الأزمة في لبنان بفعل عدم تحويل الأموال من المغتربين أيضاً الذين يعتمد عليهم لبنان. علما أنّ اللبنانيين إعتادوا على ضخ اموال في بلدهم تساهم في تحريك العجلة الاقتصادية، كما كانت الحال مع اموال منظمة "التحرير الفلسطينية" والدعم المالي الذي تلقته قوى لبنانية من ليبيا وسوريا وايران ودول الخليج العربي. كلّها توقفت او خفّت بشكل كبير.

ومن يراقب الساحات الإقليمية يعرف ان الاردن وسوريا والعراق وإيران والسعودية ومصر ودول أخرى يعانون من أزمات متفاوتة، فرضت رفع الأصوات الشعبية. واذا كانت الحروب انهكت بعض تلك الدول فإن دولاً اخرى تعيش على موارد خارجية كما حال اللبنانيين، لكن الفارق أن الإعلام اللبناني أكثر حرية وجرأة في نظام سياسي طائفي هش.