قد لا تكون المرحلة الحالية "ذهبيّة" بالنسبة إلى أيّ طامحٍ لأيّ منصبٍ في ​لبنان​، ولا سيما ​رئاسة الحكومة​، خصوصاً أنّ جميع اللاعبين الذين أسهموا في تدهور الأمور ووصولها إلى الدرك الأسفل، يتشاركون في "استشراف" أسوأ السيناريوهات في القادم من الأيام، والتي قد يكون الانهيار الاقتصاديّ والاجتماعيّ على رأسها.

وفي خضمّ سباق الكثير من الفرقاء على "الخروج" ممّا سُمّيت في ظروفٍ أفضل بـ"جنّة الحكم"، حتى لا يسجّل التاريخ عليهم مشاركتهم في "حكومة الانهيار"، إن تدحرجت الأمور دراماتيكياً، يبدو رئيس الحكومة المكلّف ​حسان دياب​، الآتي من تجربةٍ وزاريّةٍ يتيمةٍ نسيها معظم اللبنانيين على رغم "أرشفتها"، مغامراً، بل "انتحارياً" كما يحلو للبعض القول.

اختار الرجل قبول "التحدّي"، واستغلال "الفرصة" التي قد لا تتكرّر مرّةً أخرى، على رغم كلّ الملابسات التي أحاطت بها. لم يستسلم لسيناريو "الإحراج فالإخراج" الذي خضع له بعض أسلافه، فتسلّح بـ"دستورية" تكليفه، مقلّلاً من شأن "عدم الميثاقية" التي وضعها البعض في وجهه، استناداً إلى غياب "التفويض السنّي" له.

استبق كلّ التكهّنات بأنّه "سيعتذر عاجلاً أم آجلاً"، جازماً بأنّه لن يفعل، بأسلوبٍ اتّسم بـ"برودةٍ فاقعةٍ" وثقةٍ بالنفس وصفها كثيرون بـ"المفرطة"، فما هو "السرّ" خلف كلّ ذلك؟ هل من "غطاءٍ" يتحصّن به الرجل؟ والأهمّ من هذا وذاك، هل تتوافر له فرص "النجاح"، في ضوء كلّ التحديات التي تحيط به؟!.

نجاح أول؟!

قد يكون "النجاح" الأول الذي حقّقه دياب بعد تكليفه أنّه عرف كيف "يقلب" صورته برأي كثيرين في وقتٍ "قياسيّ"، بل استطاع أن "يشقّ" الكثير من الصفوف، مفرزاً انقساماً جديداً ونوعياً حول شخصه، سواء على مستوى الأحزاب السياسية، ولا سيما تلك التي لم تسمّه، أو حتى داخل الحراك الشعبيّ، الذي خرج منه من يدعو إلى منح الرجل "فرصة"، ومن يرفض ذلك لاعتباراتٍ وحساباتٍ شتّى، على رأسها "الإخراج الهزيل" الذي أدّى إلى تكليفه.

ولعلّ الاستشارات غير الملزمة التي قام بها الرجل السبت الماضي، تختصر "نجاحه" على هذا المستوى، حتى أنّ كثيرين ممّن سارعوا إلى تصنيفه كـ "ممثّلٍ لمحور"، وبالتالي رئيسٍ لحكومة لونٍ واحدٍ، إن قُدّر له أن يؤلّف، فوجئوا بطروحاتٍ مغايرةٍ يقدّمها الرجل، ومن هؤلاء النائب ​بولا يعقوبيان​، التي دخلت إلى لقائها معه، وهي ترتدي "عدّة" المعارضة، قبل أن تخرج منه مفعمةً بالحماسة لهول ما سمعت، وإن برّرت موقفها بعدما طالتها الانتقادات، بالقول إنّها نقلت "وعوده"، ولم تُبدِ رأيها الخاص بها، علماً أنّها تساءلت عن "مغزى" رفض شروط رئيس الحكومة المستقيلة ​سعد الحريري​، إذا كانت نفسها شروط دياب.

وربطاً بتساؤل يعقوبيان المُحِقّ والمشروع، بالنظر إلى الملابسات التي أحاطت بإبعاد الحريري وتسمية دياب، ثمّة علامات استفهامٍ تُطرَح حول حقيقة "الغطاء" الذي يتحصّن به دياب، وما إذا كان فعلاً قد نال "تفويضاً" لتحقيق التطلّعات التي يتحدّث عنها، أم أنّ الأمر مجرد "مناورة" لشراء الوقت، وتخفيف وقع الاحتجاجات على تسميته، وهو ما انعكس في التحرّكات المناوئة له في الشارع، والتي بدت "خجولة" مقارنة مع غيرها، ما دفع العديد من أنصار "​تيار المستقبل​" مثلاً إلى "نعي" ​الثورة​، واستنتاج أنّ شعار "كلن يعني كلن"كان يستهدف الحريري حصراً، دون غيره من رموز الطبقة السياسيّة.

"نموذج" جديد؟!

وبانتظار أن تتّضح الصورة وتتبلور النيّة الحقيقيّة لرئيس الحكومة المكلّف، ومن خلفه للأحزاب التي سمّته، ولا سيما تلك التي كانت متمسّكة حتى الأمس القريب بحكومة "تكنو-سياسية" من دون أيّ نقاشٍ، تبقى "العبرة في التنفيذ"، خصوصاً أنّ اللبنانيين خبروا الكلام المعسول على امتداد الحكومات المتعاقبة، والتي أسرف رؤساؤها كما وزراؤها في بناء "الأحلام الورديّة" التي بقيت حبراً على ورق في أحسن الأحوال.

من هنا، قد يكون من الطبيعيّ أن يحكم كثيرون سلفاً على دياب بالفشل، خصوصاً أنّ تكليفه لم يُبنَ على أساسٍ صلب، لا وطنياً ولا طائفياً، فهو سقط بالمظلّة قبل ساعاتٍ من ​الاستشارات النيابية​، ما أوحى وكأنّه جاء نتيجة "صفقةٍ دُبّرت في ليل"، كما أنّه جاء بموجب تسمية أحزابٍ من لونٍ واحدٍ، وهو للمفارقة اللون المُتّهَم بـ"الاستشراس" في مواجهة الحراك الشعبيّ، بل في "تخوين" شرائح واسعة منه، وتصنيفها وكأنّها جزءٌ من "مؤامرة" تستهدف البلد واقتصاده. ويضيف البعض إلى ذلك جدل "الميثاقية"، استناداً إلى كون دياب لم يحصد تأييد أكثر من ستة نواب سُنّة، هم أعضاء "​اللقاء التشاوري​" المحسوب على "​حزب الله​"، ولو أنّ هذا الجدل يتّسم بـ"العقم"، خصوصاً أنّ هذا المنطق يفترض أن يكون أول ما تنبذه "الثورة" العابرة للمناطق و​الطوائف​.

لكن، مقابل هذا الرأي، ثمّة وجهة نظر أخرى يعبّر عنها المتحمّسون لدياب، أو بالحدّ الأدنى الداعون لمنحه فرصةً ليُبنى على مقتضاها، وهي تنطلق من كون الرجل يشكّل في جانبٍ ما، "نموذجاً" جديداً ومختلفاً في الحكم، فهو ولو اختبر العمل الوزاريّ سابقاً، لا يُعَدّ من "رموز" الطبقة السياسيّة، وهو الآتي من خبرةٍ أكاديميّةٍ واسعة، كما أنّ لا "شبهات فساد" جدّية عليه، ولو أنّ كثيرين عدّوا "كتاب الإنجازات" المثير للجدل ولغيره في إحدى خانات "​الفساد​"، لتبقى الانتقادات التي طالته من "نرجسيّة" وغيرها، أمورٌ لا يمكن التعويل عليها في الشأن العام.

ووفق قاعدة "الحق الكاذب إلى باب الدار"، يقول أصحاب هذا الرأي إنّ المطلوب وضع دياب أمام الامتحان، فإما يطبّق الإصلاحات التي وعد بها سريعاً، وإما يتمّ قطع الطريق عليه، خصوصاً أنّ الرفض المُطلَق لكلّ شيء لم يعد مُتاحاً، في وقتٍ تقترب البلاد أكثر فأكثر من الانهيار، وبالتالي، طالما أنّ دياب يزعم أنّه يريد تحقيق مطالب الثوار، ويصرّ على أنّ حكومته ستتألف من "تكنوقراط مستقلين"، وهو ما حرص على تكراره مراراً في تصريحاته الأخيرة، فليُعطَ فرصة إقران أقواله بالأفعال، وبناءً على مهلةٍ قصيرةٍ وضعها لنفسه بنفسه، ولا تتعدّى الأسابيع الستّة.

تنقلب على صاحبها!

قد تتحوّل "برودة" دياب في التعامل مع منتقديه، إلى عامل انقسامٍ جديدٍ في الداخل اللبناني، فالرجل الذي لم يُعِر الاعتبارات "الطائفية" التي أحاطت بتكليفه "حساباً"، والذي أصرّ على أنّه سيزور ​دار الفتوى​ "في الوقت المناسب"، يتعامل وفق الأسلوب نفسه مع التحرّكات المناوئة له في الشارع، مكتفياً بإصدار بعض البيانات بغرض نفي الإشاعات التي تتناوله، لا أكثر ولا أقلّ.

وإذا كانت هذه "البرودة" معطوفةً على "الثقة بالنفس" تُسجَّل للرجل، الذي يبدو حازماً ورافضاً للمساومات، فإنّ الخشية تبقى من أن تنقلب عليه، خصوصاً إذا ما تبيّن أنّ كلّ أدائه لا يعدو كونه محاولة شراءٍ للوقت، أو ربما تضييق "الهوة" التي فرضتها طريقة تكليفه مع الناس، ليستطيع العمل بالحدّ الأدنى.

وفي وقتٍ قد تكون "الثورة" مُطالَبة بعدم الانجرار إلى "الفخّ" الذي ينصبه لها البعض، لتجريدها من مكامن "قوتها"، خصوصاً أنّ هدف "شقّها" لا يبدو بريئاً عن كلّ ما يحدث، فإنّ دياب مُطالَبٌ قبلها، بإثبات "حسن نواياه"، بالأفعال وليس بالشعارات الرنّانة!.