شكلت الحادثة التي وقعت في منطقة المناجم في عكاشات العراقية الواقعة في محافظة الأنبار، الشرارة العسكرية الأولى لإنغماس العراق في الأزمة السرية على الأرض بعدما امتدت لتطال مسار العملية السياسية في العراق على مدى عام. حيث اعتبر مقتل ما لا يقل عن 48 جندياً سورياً في كمين غرب العراق إضافة إلى عدد لم يتم الإفصاح عنه من الجنود العراقيين أثناء إعادة نقل جنود سوريين إلى بلادهم وأيضاً وفق معلومات متناقضة عن فرارهم من الجيش السوري نتيجة سيطرة الجيش السوري الحر على منطقة حدودية مع العراق ما دفعهم إلى الهروب والتوغل داخل الحدود العراقية و هو ما نتج عنه قصف تعرضت له بعض هذه المناطق.

هذه الحادثة تأتي غداة تحذيرات مثيرة أطلقها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عندما قال بأن انتصار المعارضة في سورية يستدعي حروباً طائفية في العراق ودول أخرى في المنطقة ويخلق فيها ملاذاً جديداً لتنظيم القاعدة، مشدّداً على أن العراق سيتصدى بكل حزم لهذه المحاولات من كل الأطراف. وبهذا يكون العراق قد انغمس في جبهة القتال الدائر في سورية، ليشكّل طرفاً «لا إراديا «في هذا النزاع وليكرّس الانقسام الحاصل في الموقف العراقي من تطورات هذه الأزمة.

فقد جرت حادثة عكاشات عند معبر الوليد الحدودي غرباً مع سورية التي تقع في منطقة تسكنها غالبية سنية ترتبط بعض عشائرها بعلاقات قرابة مع عشائر سورية، التي كانت إحدى أكبر معاقل تنظيم القاعدة في العراق في السنوات التي أعقبت الغزو ولكن نجاح تحالف العشائر بتشكيل قوات الصحوة عام 2006 ساعد في طرد الجماعات المسلحة منها ما جعلها تدخل في عملية المصالحة السياسية التي نجحت حينها حكومة المالكي بتحقيقها لتعود فتنقلب عليه وتدعوه للاستقالة وقد وصلت هذه المطالبات حدّ المواجهة مع حكومة المالكي ما أعاد خلط الأوراق من جديد ليس فقط على صعيد المواقف الداخلية السياسية من انتخابات مقبلة وتحالفات صعبة، بل أيضاً في قضايا إقليمية أولها القضية السورية، التي تعتبر بعض المحافظات الغربية بشكل أو بآخر مؤيدة للجماعات المسلحة التي تحارب النظام في سورية، وهو موقف مختلف تماماً عمّا تنتهجه الحكومة العراقية.

لقد جاء تحذير المالكي بأن ما يجري في سورية اليوم قد ينتقل الى العراق ولبنان بمثابة تأكيد على انتقال الصراع في سورية فعلياً إلى العراق المثقل بهمومه الأمنية والسياسية، وترجمة فعلية بأن هذا الصراع له أبعاد اقليمية ستتأثر به تحديداً الدول التي تتنوع مكوناتها العرقية مثل لبنان والعراق مع الأخذ بالاعتبار أن المكاسب التي يمكن أن تحققها المعارضة السورية ضد النظام السوري قد يكون المستهدف التالي بعدها هو المالكي خاصة في ظل استمرار الاحتجاجات التي تشهدها اكثر المحافظات السنية بمشاركة العشائر المتواجدة فيها حيث تسربت معلومات عن ان ما يجري حاليا في هذه المحافظات انما هو تمهيد «لانقلاب»على الحكومة وتدمير للعملية السياسية برمتها وذلك في حال تحقيق المعارضة السورية أي انتصار ساحق على الأرض وربما يكون هذا التوجس مبررا لتعاطي القوات الامنية العراقية مع هذه التظاهرات والتي تبدو أن الأمور تتجه فيها نحو مزيد من التصعيد خاصة بعد ما حصل من اشتباكات أخيرة مع قوات الشرطة في مدينة الموصل ووقوع قتلى وجرحى.

هذا التصرف «الحازم» تجاه ما يجرى في بعض المحافظات العراقية ليس أقل حزما مما يجري على الحدود مع سورية، حيث أعلنت وزارة الدفاع العراقية بعد حادثة «عكاشات» الأخيرة ارسال تعزيزات عسكرية برية وجوية الى الحدود المشتركة مع سورية اضافة الى انشاء مراقبة جوية على طول الشريط الحدودي مع غرفة عمليات وقيادة لمتابعة الموقف على الحدود.

لا شك بأن حكومة المالكي «تُحاصر» وبقوة من الداخل والخارج ليس فقط بسبب موقفها المساند للنظام السوري، وهو ما جعل بعض الأطراف الإقليمية والعربية المناهضة لهذا النظام والداعمة لحركة المعارضة السورية تعمل على «تأليب «بعض الفصائل العراقية للتحرك تحت شعار «تلبية المطالب الشعبية والخدمية المشروعة». ولإظهار المالكي بمظهر «القامع» لمطالب الجماهير» المحقة « وهو ما قد ينجح به خصومه إذا ما استمر هذا التعاطي مع التظاهرات والتي يبدو أنها لن تكون بأيام الجمعة فقط بل قد تتطور وتمتد لتشمل أياما ومحافظات اخرى.

ينبغي على رئيس الحكومة ان يدرك بأن التعاطي بقسوة وعنف وتجاهل الاعتصامات والتظاهرات تحت أي عنوان كان لم يعد يجدي نفعا في زمن تحررت به الشعوب من عقدة الخوف وأصبح «التغيير» شعارا مطروحا ومتداولا وقابلا للتحقيق في ظلّ ما شهدته المنطقة من تحولات... لتواجه حكومة المالكي تحديات صعبة لم يكن أولها تظاهرات الأنبار، ولن يكون آخرها حادثة «عكاشات»!