كَثُرت الأقاويل والأحاديث التي تمدح الأمّ في عيدها وتُثني على جهادها في رعاية أسرتها والتضحيات التي تبذلها دون منّة، وكثرت أيضًا المقالات التي تتحدث عن الأمّ المناضلة، والأمّ العاملة، والأمّ التي تفرّغت لأطفالها، والأمّ التي تربّي أطفالاً لم تلدهم من رحمها... ولكن "الجنة تحت أقدام الامهات" وغيرها من الشعارات الرنانة التي تتصدر عناوين المقالات في ​عيد الأم​ لا تكفي لوصف الكمّ من تضحياتها الفعليّة في مجتمعنا، وتلك أيضاً، لا تكفي كمعايدة للأم في عيدها.

"النشرة" اختارت أن تعكس بعضاً من قصص الأمهات في لبنان، لعلّ ذلك يرفع صوتهن، ويصل الى المعنيين.

الام المعنفة

لما أم لثلاث بنات، عانت من العنف الأسري طوال أكثر من 14 عاماً من زواجها المستمر منذ 22 عاماً. تتحدث لما عن مرارة ما عاشته، وكمية العنف الذي تحملته، هي وبناتها، وتقول لـ"النشرة": "كل يوم تقريبا تسألني بناتي "إلى متى؟"، أي إلى متى سنستمر على هذا الحال، نتحمل عنفه ومزاجيته وكل يوم أجيبهن: "سيصبّرنا الله، لأجلكنّ ولأجل مستقبلكنّ أستطيع تحمّل كلّ ذلك. لو كنت أستطيع ان أبني لكنّ مستقبلا مشرقا من دونه لما بقيت معه. ولو أن القانون يمنحني جزءًا بسيطاً من الحماية لما كنا على هذا الحال.. ولكننا سنصبر، وسنتعلّم، ونعمل، حتى نستطيع أن نتحرر من هذا السجن".

تبتسم لما وعيناها مغرورقتان بالدموع، وتسأل: "ماذا أستطيع أن أفعل؟ هل أطلب الطلاق؟ هل أرفع دعوى قضائية؟"، وتجيب نفسها: "أهلي ناس "على قد حالهم"، لا يستطيعون أن يتحملوا كلفة معيشتي أنا وطفلتاي، وحتى لو أني إمرأة عاملة، لكن راتبي لا يكفي لأبسط حاجياتهن الشهرية. وإن رفعت دعوى، فماذا سأجني غير "الفضيحة"؟ من سيأخذ لي حقي؟ ومن يضمن لي النتائج؟".

أولاد فقدوا أمهم.. جسداً أو عطاءً

بنات لما يحمدن الله على نعمة وجود أمهن، رغم كل شيء، لكن عيسى، ابن الـ16 عاماً، يعيش عيد الأم هذا العام بلا والدة.. ففي يوم دراسي، انتظر عيسى والديه ليقلاه الى المنزل كما وعداه، لكنهما لم يأتيا.. إستغرب الأمر، لكنه توقع أن يكونا قد انشغلا بأمر طارئ، فغادر بباصه المدرسي. على طريق العودة، كانت زحمة سير خانقة بسبب حادث سير، فقال عيسى "اذا مسرع، بيستاهل". وصل الى المنزل، ولم يجد والديه.. بدأ بالصّراخ "أريد أمي.. أين أمي؟". فحضرت عمّته الى المنزل، واصطحبته معها الى المستشفى. هناك قالوا له "لقد أصبحت كبيراً يا عيسى، وسنخبرك.. لقد توفيت والدتك في حادث سير".

يروي عيسى الحادثة لـ"النشرة" وهو لا ينفكّ عن البكاء، ويقول: "لقد كانت أمي حنونة.. كانت تحميني من قسوة أبي.. وفي عيد الأمّ هذا لست منهمكاً بما أشتريه لها كباقي الاولاد".

مأساة عيسى كبيرة، لكن نسيم – الذي لا تزال أمه على قيد الحياة – محروم من الاحساس بالامومة. فيقول نسيم: "أنا لبناني، بس مش لبناني.. ما عندي هوية". نسيم من أم لبنانية وأب بريطاني، لا يسمح له القانون اللبناني بالحصول على الجنسية، مع العلم أنّه وعائلته يقيمون في لبنان قبل أن يولد.

ألم فقدان الزوج

قصص لما وعيسى ونسيم مؤلمة، لكنها لا توازي معاناة سهى، التي توفي زوجها في حادث سقوط الطائرة الاثيوبية. "تعبت"، هي أول كلمة تقولها سهى بينما تتحدث عن مرارة ما عاشته بعد غياب زوجها. "ابني الصغير كان يبلغ 3 سنوات من العمر فقط.. زوجي أرادنا ان ننجب طفلاً حتى يستطيع أن يراه يكبر عندما يعود الى لبنان، فهو لم يستطع أن يرى ابنه وابنته يكبران وهو مسافر طوال الوقت".

"لأول مرة يسافر ولا يقبل ان انتظر طائرته حتى تقلع، وما أن وصلت الى المنزل حتى سمعت الخبر.."، تقول سهى لـ"النشرة"، وتضيف: "انتظرنا طويلا حتى تأكدنا ان جميع من كان على تلك الطائرة قد توفي، واستمرت التحقيقات لأكثر من سنتين في أسباب هبوط الطائرة. لم أتحمل وقع الخبر، وانهرت كلياً، لكنني استمريت.. لأجل اطفالي الثلاثة، ولأجل روحه. ابنتي وابني اليوم في الجامعة، وابني الصغير في المدرسة". وقبل أن نسألها عن حال أولادها ووقع الخبر عليهم، تستطرد قائلة: "أطفالي انهاروا مثلي، لكننا قوينا بعضنا، واليوم ابني الاكبر يسافر كلما استطاع الى افريقيا ليتابع عمل زوجي هناك، وأنا أتابعه من هنا. أما طفلي الاصغر، فهو يعرف أن أباه في السماء، ويزور قبره دائما".

لا تستطيع سهى أن تمسك نفسها، فتبكي، وتقول "اشتقنا له كثيرا، أنا اليوم الأم والأب، وبغياب زوجي، عيد الأم وسواه ليست أعياداً".

.. ويبقى أمل

كمية الوجع بين كلّ كلمة ودمعة في القصص هذه تحتاج للأمل.. الأمر الذي تمنحه قصة ريموندا، الأم منذ 9 سنوات لثلاث أولاد، والتي تعيش السعادة بحقّ في حياتها الزوجية وأمومتها. تقول ريموندا لـ"النشرة": "أنا سعيدة جداً، وأهم ما لدي هو ضحكة أطفالي الصباحية. أكبر همّ لديّ هو متى ينامون ومتى يصحون وكيف يتصرفون"، وتؤكد أن "الأمومة هي أجمل ما في هذه الدنيا، وجعلتها تقدر أمها أكبر".

قبل 21 آذار من كل عام، يحتار الابناء والازواج في الهدية التي يريدون احضارها لأمهاتهم، زوجاتهم أمهات أطفالهم، ولكن لم يفكر أحد في النظر الى "ما ينقص الام اللبنانية حقاً في عيدها".. فالمجوهرات والحليّ، والورود، والملابس، وأدوات المطبخ وما الى هنالك من الهدايا ثمينة، لكن أليس الأهم أن نهدي الأم ما يُكرمها في أمومتها؟ والمقصود هنا قانون يحميها من العنف الأسري، قانون يسمح لها باعطاء الجنسية لأولادها، أو حتى كوتا تضمن وصولها الى مراكز القرار مثلا..

لكلّ الامهات، اللواتي ولدن أطفالا واللواتي لم يستطعن الانجاب، كل عام وأنتنّ بخير.

ملاحظة: الاسماء الواردة أعلاه مستعارة، نزولاً عند رغبة المعنيين، والصور (بعدسة حسين بيضون) غير مرتبطة بالوقائع المذكورة.