بعد سنوات طويلة من الصراع العسكري بين الحكومة التركية وحزب "العمال الكردستاني"، يبدو أن الجانبين باتا مستعدين للبدء بعملية تفاوضية طويلة، كانت أولى خطواتها إنسحاب مقاتلي الحزب من الأراضي التركية الذي بدأ أمس.

العديد من النقاط الغامضة ما تزال تعتري هذه العملية، وهناك العديد من علامات الإستفهام التي توضع حولها، لا سيما أنها لم تكن قبل أشهر قليلة ممكنة، فما الذي دفع الحكومة التركية إلى التنازل، وما علاقة هذا الأمر بالأحداث الجارية في سوريا؟

الأكراد​ يؤكدون أنهم لم يتنازلوا

قبل أشهر قليلة، كان حزب "العمال الكردستاني" يشن العمليات العسكرية ضد القوات التركية، ما أحدث خضات أمنية في الداخل التركي، لا سيما في شرقي البلاد حيث كان الحديث عن تصاعد الصراع إلى أعنف معدلاته منذ بدايته، لكن المفاجأة كانت من خلال إعلان رئيس الحكومة التركية ​رجب طيب أردوغان​ البدء في عملية تفاوض مع الزعيم الكردي عبدالله أوجلان عبر حزب "السلام الديمقراطي" الكردي.

وفي هذا السياق، يؤكد أحد المتابعين لسير العملية التفاوضية أن "هذه النتيجة لم يتم التوصل إليها إلا بعد أن إقتنعت الحكومة التركية بأن الصراع لن يحل إلا من خلال عملية تفاوضية، لا سيما بعد تغيير عدد من المعطيات على أرض الواقع، والتي لم تكن لصالحها".

ويشير، في حديث لـ"النشرة"، إلى أن "الأحداث الجارية في سوريا كانت عاملاً أساسياً في هذا التحول في الموقف التركي، لا سيما بعد أن أصبحت مفتوحة على مصراعيها"، لافتا إلى أن "الجانبين التركي والسوري كانا يتعاونان في الفترة السابقة في الكثير من المسائل الأمنية، والتي كان من أبرزها منع عناصر الحزب من القيام بأعمال عسكرية عبر هذه الحدود". ويوضح أن "هذا الأمر لم يعد ممكناً في الوقت الراهن".

ومن جهة ثانية، يشدد على أن "الجانبين باتت لديهما قناعة تامة بأنهما غير قادرين على حسم الخلاف عسكرياً، وهما يعتبران اليوم أن التفاوض هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق". ويتحدث عن عوامل دولية مساعدة في هذا الموضوع، حيث يؤكد أن "هناك تشجيعاً أميركياً أوروبياً على هذا الأمر".

على صعيد متصل، يؤكد قيادي كردي سوري مقرب من حزب "العمال الكردستاني" أن "الحزب لم يتنازل من أجل الوصول إلى هذه المرحلة"، ويعتبر أن "تركيا هي من إضطرت إليه بعد حصول تبدل في المعطيات الإستراتيجية على صعيد المنطقة". ويشير إلى "أن الأكراد منذ البداية يريدون حل المسائل العالقة عبر المفاوضات السلمية، في حين أن الجانب التركي هو الذي كان يرفض"، لافتا إلى أن "أردوغان نفسه كان قد أعلن منذ مدة، في حديث تلفزيوني، أن المسألة الكردية في تركيا إنتهت، قبل أن يعود إلى الحديث عن ضرورة حلها في الفترة الأخيرة".

بالإضافة إلى كل هذه المعطيات، يتحدث قيادي كردي آخر، عبر "النشرة"، عن عامل مهم دفع الحكومة التركية إلى إتخاذ هذا الموقف وهو يتعلق بالإنتخابات المحلية، حيث يؤكد أن "حزب "الحرية والعدالة" بحاجة إلى تأييد حزب "السلام الديمقراطي" في هذه الإنتخابات، لا سيما بعد أن بات يكتسب شعبية كبيرة".

الإنسحاب ليس إلا بداية مرحلة طويلة

في سياق آخر، يوضح المصدر المتابع أن "إنسحاب عناصر "العمال الكردستاني" لن يكون إلا البداية في مسار مرحلة طويلة، ينبغي أن يتم التعاطي معها بكل مسؤولية"، حيث يكشف أن هناك "إتفاقا على الخطوط العريضة بالنسبة إلى المستقبل".

ويلفت إلى أن "هذا الإنسحاب لن ينتهي في وقت قريب"، مشيرا إلى أن "عوامل عدّة تتحكم فيه، لا سيما الظروف الطبيعية في المنطقة الحدودية مع العراق التي بدأت تشهد ذوبان الثلوج". ويؤكد أن "أنشطة الإستطلاع التي تقوم بها الطائرات التركية لن تسهّل هذه العملية أيضاً"، مشددا على أنها "قد تستمر حتى الخريف المقبل".

ويرى المصدر المتابع أن "المطلوب من الجانب التركي بعد التزام الجانب الكردي بالإنسحاب إلى شمال العراق البدء بخطوات مقابلة"، لافتا إلى أن "عليه العمل على تهيئة الرأي العام من أجل القبول بالحل، مع العلم أن نسبة المؤيدين في آخر إستطلاعات الرأي كانت مرتفعة، بالإضافة إلى ضرورة العمل على التعديلات القانونية وصياغة دستور جديد يعترف بحقوق الأكراد". ويشدد على أن "البداية يجب أن تكون من خلال تعديل قانون الإرهاب من أجل إطلاق سراح المعتقلين في السجون".

ومن جانبه، يعبّر القيادي الكردي السوري عن مخاوف "من عرقلة هذه العملية"، رغم تأكيده على "وجود تفاؤل كبير بالوصول إلى نهاية سعيدة". ويلفت إلى أن "الرغبة الواضحة بالوصول إلى حل، التي ظهرت في المفاوضات التي بدأت بين الإستخبارات التركية وأوجلان نفسه، يعول عليها كثيراً".

ومن جهة ثانية، يشير إلى أن "من الممكن القول أن الأمور ما تزال في بداية مرحلة صعبة جداً، خصوصاً أن لا ثقة بين الجانبين على الإطلاق"، معتبرا أن "خطر عودة الأمور إلى سابق عهدها ما يزال قائماً بشكل كبير".

ويتوعّد الحكومة التركية "بدفع الثمن غالياً في حال تراجعت عن التعهدات التي قدمتها"، ويشير إلى أن "الحزب قادر على العودة إلى تركيا خلال فترة قصيرة، بالإضافة إلى أن لديه الكثير من المؤيدين القادرين على التحرك في الاراضي التركية سريعاً في حال تمت العودة إلى نقطة الصفر".

في المحصلة، هناك عملية تفاوضية طويلة بدأت أولى مراحلها بالأمس بين الأكراد والحكومة التركية، لكن مخاطر فشلها كبيرة رغم المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية التي تساعد على دفعها الى النجاح.