مما لا ريب فيه ان الغيرة تُبقي نار الحب مشتعلة بين الشريكين، وبنوعها الآخر يمكن ان تشكّل حافزاً للإنسان ليتقدّم في مسيرته الحياتية عندما يغار ممن هو أفضل منه في المجتمع أو في العمل. وكما ان لكل شيء وجها عاطلا وآخر حسنا، كذلك الغيرة "سيف ذو حدّين"، ترفع المرء فوق الغيوم كما يمكن ان تقطّعه أجزاء وتستنزف من قدراته النفسية؛ وقد صدق من قال "الغيرة بتقتل".

والغيرة بمفهومها العام هي إنفعال ناتج عن أفكار ومشاعر سلبية عن الذات، كمشاعر عدم أمان مثلاً، خوف وقلق، أو عدم إمتلاك ميزات مادية شخصية أو معنوية كالآخر، مما يدعو إلى تأجيج الشعور بالغيرة، بحسب ما شرحت الإختصاصية في علم النفس العيادي كارين منسّا لـ"النشرة". وميّزت منسّا بين الغيرة التي تنشأ بين الأصدقاء وبين الإخوة من جهة، وبين الغيرة التي تنشأ في العلاقات الغرامية بين الرجل والمرأة من جهة أخرى.

فبالنسبة إلى الغيرة بين الأصدقاء، أرجعت منسّا سببها لحقيقة ان المرء يعطي في بعض الأحيان أهمية كبيرة للصديق ويستثمر طاقة نفسية كبيرة في العلاقة معه، إذ تشكّل هذه الصداقة مصدر مشاعر إيجابية مما يجعل فقدانها صعباً إن ابتعد الصديق أو دخل شخص ثالث على العلاقة يهدد ما بُني قبل وصوله؛ أما فيما يتعلّق بالغيرة بين الإخوة والأخوات، فرأت منسّا انه "يصعب على الأولاد عادةً تقبّل وجود أخ أو أخت يجتذب إنتباه الوالدين ويحتّم عليه مشاركة معيّنة وإستيعاب فكرة عدم إمتلاكه لأهله". وفي السياق ذاته، وجدت دراسات نفسيّة ان هذا النوع من الغيرة هو الأخطر، إذ يمكن ان يدفع بالولد إلى المجهول، لأن المرء يتأثّر بطفولته التي تكوّن شخصيّته المستقبلية، ويمكن ان تجعل منه إنساناً بائساً محطّماً، أو سعيداً مكتفياً بحياته ونفسه.

غيرتي دمّرت حياتي..

نبيل مهنا، المتزوّج منذ 5 سنوات، أوضح لـ"النشرة" أنّ "غيرته دمّرت حياته"، قائلاً: "عندما كنت طفلاً كنت أغار من شقيقي الأكبر، لأنه دائماً ما كان يستحوذ على إهتمام والديّ، وهما أيضاً لا يكفّان عن الاهتمام به في كل تفاصيل حياته، حتى بعد زواجه كانا يهتمان بمعرفة تفاصيل حياته الزوجية"، مضيفاً: "إزدادت هذه الغيرة وكبرت في داخلي كلّما كنت أكبر سنّاً حتى تملّكتني، وبدأت تؤثّر على حياتي الزوجية، حيث صرت أغار على زوجتي بشكل مخيف ومن دون أسباب منطقيّة، مما أدّى إلى الطلاق بعد العديد من المشكلات التي واجهتنا بسبب هذه الغيرة".

وتعليقاً على خبرة نبيل، أشارت منسّا إلى ان "سبب الغيرة في هذه الحالة يعود إلى عدم شعور الطفل في مراحل نموه بحبّ غير مشروط من قبل الأهل يغذّي ثقته بنفسه، مما يجعله يبحث بإنتظام عن إثباتات بخصوص هذا الشأن من الذين يحيطوه وهذا يُشعره بأن الجميع يتفوّقون عليه وبعدم أو قلّة الثقة بالنفس في تجاربه العاطفيّة وحياته اليوميّة"، لافتةً إلى ان "الإضطراب الذي أصاب علاقته بزوجته وأدّى إلى الطلاق يمكن ان يكون سببه عدم الإتزان في شخصيته الذي يجعله يضطرب لأي إشارة خارجية مهما تكن، يحللها ويعطيها معانٍ غير واقعيّة". وعن شعور الزوجة في هذه الحالة، شرحت منسّا أنّ "غيرة الزوج التي أصبحت مرضيّة تدمّر العلاقة وتشكّل كابوساً لكلا الزوجين، إذ يشعر الشريك الغيور بقلق كبير مدمّر ويشعر الشريك الآخر بالإختناق"، مضيفةً ان "العلاقة عندها تصبح شبيهة بالجاسوسية أكثر من أي شيء آخر، فتتدمّر العلاقة، أو ينتج عنها تداعيات خطيرة تصل إلى القتل في بعض الأحيان النادرة".

حين يصبح هدف الغيرة امتلاك الآخر..

أمّا رانيا عبدالله، فقد رأت عبر "النشرة" وجوب تفهّم الإنسان لشريكه في العلاقة العاطفيّة وان يكون عالماً بظروفه حتى لا تصبح الغيرة قاتلة، كما عليهما مناقشة هذا الموضوع ومحاولة معالجته من جذوره عبر الحوار"، مضيفةً انه "إذا تعذر الأمر وباتت الغيرة مرضيّة، فيصبح على الحبيب اللجوء إلى معالج نفسي لمساعدته على تخطّي الأمر لأنه في هذه الحالة لا يعود يكفي التفاهم بين الحبيبين، بل يصبح واجباً الإستعانة بالعلم والطب لمعالجة المشكلة"، مشددةً على "ضرورة ألا يترك الشريك حبيبه الغيور، بل يجب عليه ان يساعده ويفهمه ويقف إلى جانبه لإتقاذ العلاقة سويّاً، والعبور بها إلى الطريق الصحيح، غير المرضيّ".

وفي هذا الإطار، أوضحت منسّا الغيرة التي تنشأ في العلاقات الغراميّة، قائلةً: "انها تنتج عن الخوف من فقدان حبّ الشريك أو حصريّة حبّه لمصلحة شخص آخر"، لافتةً إلى ان "هذه المشاعر يمكن ان تُبنى على الأوهام والشكوك لا على الوقائع، وعندما تصبح دائمة ومبالغ فيها وتشكيكية صرف، تغدو حينها الغيرة مرضيّة هدفها إمتلاك الآخر". وعن إمكانية معالجة هذه الغيرة التي لم تصبح مرضيّة بعد، رأت منسّا ان هذا النوع يمكن ان يكون حافزاً للحوار والتعبير الصادق بين الشريكين لجعل العلاقات أمتن وأوضح، حيث يستطيع الحوار تبديد الشكوك ويحافظ على الحب بين الحبيبين.

ان الغيرة، في نهاية المطاف، شعور صادق للتعبير عن الحب العميق أو عن المحبة الكبيرة للآخر الذي يتقبّلها حيناً، ويرفضها حيناً آخر. أمّا الأمر المتفق عليه، فهو ان الغيرة عندما تتخطّى حدوداً معينةً تصبح عبئاً على الفرد الغيور و"حبلاً" يشدّ على عنق الآخر الذي يختنق في النهاية ويبتعد عن حبيبه أو صديقه رغم حبّه؛ وهنا يصدق المثل الذي يقول: "كل شي زاد عن حدّو بالمعنى نقص".