في أستراليا، حاز طبيبُ أسنان على شهادة الماجيستير في العلوم الطبية وهو في السابعة والتسعين من عمره، وكانت هذه الشهادة رابع شهادة جامعية ينالها في عمره المديد، لتتفاخر الكلية التي تخرّج منها بأنّها ضربت الرقم القياسي الذي كان الشخص نفسه قد سجّله حين نال شهادة جامعية في الحادية والتسعين من عمره.

ليس هذا المثل يتيمًا عن أناسٍ آمنوا بالدراسة والعِلم ولم يقف عمرُهم الكبير حائلاً بينهم وبين دراستهم على امتداد دول العالم، وهو ما يفترضه المنطق، ولكن في لبنان، وفي مفارقة فريدة من نوعها في البلد الذي يتغنّى بأنه مصدّر الأدمغة والطاقات، بات البعض "ممنوعًا" من متابعة تحصيله الجامعي بعد أقلّ من سبع سنوات فقط لا غير على تخرّجه، والسبب في ذلك بسيطٌ ولا يجد المعنيّون حَرَجًا بإعلانه جهارًا: نظامُ التدريس تغيّر!

جامعة مظلومة..

نعم، هي قصةٌ واقعية وليست من نسج الخيال. هي قصةٌ تدور فصولُها في ​الجامعة اللبنانية​، الجامعة التي تُعنى بتربية الأجيال والتي آمن بها الكثير من اللبنانيين بوصفها من الجامعات المرموقة رغم إمكاناتها التي قد تكون متواضعة في كثيرٍ من الأحيان، ورغم الظلم الذي تسبّبت به لها الحكومات المتعاقبة التي وضعتها في أدنى سلّم اهتماماتها.

"الجامعة اللبنانية مظلومة"، قالها رئيسها الوزير السابق ​عدنان السيد حسين​ في الحديث الذي خصّ به "النشرة" قبل أشهر، في الذكرى الثانية والستين لتأسيسها. قالها السيّد حسين بحرقة، وهو يأسف للوضع الذي وصلت إليه جامعة تُعَدّ في الواقع أكبر مؤسّسةٍ عامةٍ في لبنان، وهي التي وفّرت فرص العلم والعمل لمئات الآلاف من اللبنانيين.

لا شكّ أنّ السيّد حسين محقّ، ولا شكّ أنّ صرخته نابعة من واقعٍ أليم تمرّ بها الجامعة، التي استخفّت بها الحكومات وبخُلت عليها ولو بجلسةٍ واحدةٍ تناقش فيها أمورها وشجونها. ولكنّ الوقوف إلى جانب الجامعة يحتّم أيضًا "النقد" وعدم "النأي بالنفس"، خصوصًا حين تتعلّق الأمور بحرمان طلابٍ من حقوقهم البديهية.

"بدعة" النظام "القديم"!

هي قصة واقعية إذًا، قصّةٌ سببها الظاهر ليس سوى "بدعة تغيير نظام الدراسة" في كليات الجامعة اللبنانية، وأقله في كلية الإعلام والتوثيق.

ففي هذه الكلية، طلابٌ تخرّجوا وفق نظام التدريس المُسمّى "قديمًا"، والذي لا يعود "قدمه" لأكثر من ستّ سنوات، سنوات قرّر فيها هؤلاء الطلاب أن يأخذوا راحة من "الدراسة" لاختبار سوق العمل، على أن يعودوا بعدها لمتابعة تحصيلهم الجامعي، وهنا كانت المفاجأة الصاعقة: طلاب المنهج القديم لا يحقّ لهم بالتسجيل، ولا حتى بتقديم طلبٍ لمتابعة تحصيلهم الجامعي، مهما كانت مؤهّلاتُهم وأيًّا كانت علاماتُهم، وحتى لو كانوا حائزين على تقدير.

هكذا تبدو القصّة منتهية بالنسبة للمسؤولين، الذين لا يبدو النقاش بهذه القضيّة واردًا بالنسبة إليهم، فالمسألة منتهية، وهناك قرارٌ صادرٌ عن "المراجع العُليا" بشأنه. لا حَرَج لدى هؤلاء بـ"التهرّب" من أسئلة واستفسارات الطلاب، وكأنّ رغبة هؤلاء بمتابعة تحصيلهم الجامعي تحوّلت إلى "استجداء" بشكلٍ أو بآخر، أو كأنّ الجامعة الرافضة للتدخّلات السياسية تطلب منهم اللجوء إلى بدعة "الواسطة" للحصول على "حقّهم" البديهي.

تصبحون على وطن!

كلّ ما سبق يقود إلى نتيجة "حتمية" لا مجال لـ"نكرانها"، فالجامعة التي غيّرت نظامها الدراسي، كما تقول، للالتحاق بركب التطوير، قرّرت "إزاحة" جيلٍ من دربها، وكأنّه لم يكن..

باختصار، ما سبق يعني أنّ الجامعة "تبرّأت" من "شهادة" أو بالأحرى "إجازةٍ" قامت يومًا ما بمنحها لطلابها بنفسها، ولم تعد هي تعترف بها اليوم، في "إساءة" سيتجاوزها الطلاب الذين واجهوها دون شكّ، والذين يعبّر عنهم هذا النص، لكنها بمثابة "خطيئة" ترتكبها الجامعة بحقّ نفسها، فتحوّل نفسها، عن غير قصد على الأرجح، من "مظلومة" إلى "ظالمة"!