شكلت ​اللامركزية الادارية​ منذ "اتفاق الطائف" هدفاً لمعظم المسؤولين اللبنانيين، إلا أنّ هذا الهدف بدا وكأنه صعب المنال بظل وجود أمراء الطوائف على عروشهم وغياب الحسابات الوطنية لدى السياسيين. أما اليوم، فإن اللامركزية الادارية أصبحت حاجة ضرورية في سبيل إعلاء شأن الدولة وتوفير الإنماء المتوازن وتعزيز مشاركة جميع الفئات في بنيان الوطن. فهل سنصل إليها؟

تقوم اللامركزية الإدارية على توزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين الحكومة المركزية وبين هيئات محلية مختلفة منتخبة، تتمتع بالشخصية المعنوية وتمارس وظائفها الإدارية، على المستوى المحلي، تحت إشراف الحكومة المركزية ورقابتها، غير أنها تحتفظ لنفسها باستقلال إداري، بـحيث لا تكون خاضعة مباشرة للحكومة الـمركزية في ممارسة وظائفها الإدارية، وإن كانت هذه الحكومة تمارس عليها الإشراف والرقابة.

بتاريخ 7 تشرين الثاني 2012، شكل مجلس الوزراء لجنة لإعداد مشروع قانون لتطبيق اللامركزية الادارية برئاسة وزير الداخلية السابق ​زياد بارود​، فأنهت اللجنة عملها وصدر عنها مسودة مشروع قانون في 147 مادة، ينطلق من مبدئيات دستورية ليقارب اللامركزية بأبعادها الاصلاحية عبر آليات تطبيقية وبُنى هيكلية تعتمد الانتخاب قاعدة والاستقلالين المالي والاداري وسيلة.

يعتمد مشروع القانون القضاء كوحدة لامركزية تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الاداري والمالي، ويلحظ المشروع في كل قضاء مجلسا منتخبا بالكامل مع صلاحيات واسعة جدا ومالية مستقلة مدعومة بواردات تجيز لمجلس القضاء الاضطلاع بالمهام العديدة العائدة له. ولكن كما كل مشروع يُطرح في لبنان، تُطرح معه علامات استفهام، فلماذا لم يطبق هذا المشروع سابقًا؟ وما الذي تغير اليوم ليصبح مقبولا من الجميع؟ وهل فعلا أصبح مقبولا من الجميع؟ وما حقيقة المخاوف التي تُشاع عن كون مشروع اللامركزية الإدارية سيمهد للفيدرالية والتقسيم؟ وما مدى تأثيره على صلاحيات السلطة التنفيذية؟

سببان حرما الفكرة حقها

يبدأ "راعي" مشروع اللامركزية الادارية الوزير السابق زياد بارود حديثه بالتفاؤل الحذر، فهو يعرف أنّ أيّ مشروع لن يُكتب له النجاح إن لم تتوافر النيات الحسنة لدى المسؤولين اللبنانيين، ففكرة اللامركزية الادارية حسب بارود أصبحت محط إجماع لدى الجميع بعد اتفاق الطائف وورودها فيه تحت باب الاصلاحات. ويضيف بارود في حديث لـ"النشرة": "منذ الطائف وحتى اليوم تم تداول الكثير من الاقتراحات إلا أنها فشلت جميعها بالوصول إلى الخاتمة السعيدة، بسبب له علاقة بالتوقيت السياسي وعدم الرغبة بإعطاء اللبنانيين حق المشاركة المحلية. وهنا يذكر بارود كيف ان الانتخابات البلدية أُجلت على مدى 35 عاماً، لافتا إلى ان سببين اثنين حرما فكرة اللامركزية الادارية حقها. فالحالة السياسية التي لم تعتبرها اولوية هي السبب الاول، اما السبب الثاني فهو حاجة هذا الموضوع إلى بحث بالعمق ولترابطه بمسائل اخرى.

تكييف للواقع اللبناني كما هو

ويروي بارود كيف بدأ الحديث عن فكرة اللامركزية الادارية عام 2009 وصدور كتاب "اللامركزية الادارية في مئة سؤال"، ومن بعدها تشكيل اللجنة عام 2011 برئاسته، وصولا لطرح مسودة مشروع القانون في الثاني من نيسان الحالي، والتي يعتبرها بارود مقاربة شاملة متكاملة مطروحة للنقاش الجاد والتعديل والتطوير ان اقتضى الامر. ويضيف: "لا يمكن مقارنة اللامركزية الادارية في الدول الاجنبية بما نطرحه، فنحن لم نستورد أيّ أحكام من الخارج ولم نترجم أيّ قانون أجنبي، بل عملنا على تكييف للواقع اللبناني كما هو، لاننا نعلم ان واقعنا فريد من نوعه". ويشير بارود إلى ان موافقة مجالس الاقضية المنتخبة على بعض المشاريع التي ستقوم بها السلطة التنفيذية لن يؤثر على صلاحيات الاخيرة، اذ ان هذه المشاريع محددة حصرا وهي على علاقة بالانماء المناطقي، لافتا إلى ان اي خلاف بين هذه المجالس والسلطة التنفيذية يُوجب اللجوء لمجلس شورى الدولة. ويقول: "صلاحيات السلطة التنفيذية لن تتأثر، فالقوة العسكرية بإمرتها والقضاء تحت سلطتها وسياسة الدولة بيدها وبالتالي لا تؤثر اللامركزية الادارية على صلاحيات السلطة التنفيذية بل تهدف للمشاركة المحلية بما يخص شؤون "القضاء" الداخلية فقط".

انتخاب المجالس المحلية على اساس نسبي

وفي سياق حديثه، يتطرق الوزير بارود للمجالس المحلية وكيفية تشكيلها، لافتا إلى ان المجلس مؤلف من هيئة عامة تضم مندوبين عن القرى والبلدات التابعة للقضاء نفسه يتم انتخابهم مع انتخاب اعضاء المجالس البلدية، ومن مجلس ادارة من 12 عضوا يتم انتخابهم من قبل المندوبين على اساس النسبية واللوائح المقفلة، مشيرا إلى ان الهدف من ذلك هو ايصال جميع الفئات إلى مجلس الادارة ومنع التحكم فيه من قبل جهة واحدة.

اللامركزية تحمي لبنان من التقسيم

يتذرع معارضو اللامركزية الادارية بالتقسيم والفدرالية، لتبرير رفضهم لهذا المشروع، وهنا يؤكد بارود ان مشروع اللامركزية هو الجواب الافضل لحماية لبنان من اي تقسيم. ويضيف: "هذا المشروع يقوي الوحدة الوطنية ويجعل المشاركة واقعا حقيقيا، ويجعل المواطنين جزءا من المعادلة، فهو يتوجه لكل لبناني ويقول له: مهما كان حجمك التمثيلي ومكانك الجغرافي، انت جزء من المعادلة والحركة المحلية، ومشارك بحركة الانماء". ويؤكد ان كل من يقرأ مسودة مشروع القانون سيكتشف مدى ميثاقيته، وحفاظه على خصوصية لبنان وتنوعه، لافتا إلى ان كل الدول التي اعتمدت هذا المشروع بقيت موحدة.

التنفيذ والحسابات الضيقة

اصبح هذا المشروع متداولا بين اللبنانيين، وخاضعا للنقاش كما يؤكد بارود الذي يرى فيه مستقبل لبنان، داعيا لمناقشته جديا بعيدا عن الحسابات الضيقة. ويضيف: "سنصل إلى اللامركزية الادارية اذا صدقت النوايا، اما اذا قاربنا الموضوع من زاوية سياسية ضيقة فسينضم المشروع إلى قافلة المشاريع المأسوف على وضعها".

ويخلص بارود إلى القول: "لست متشائما، إلا أن هذا الموضوع له علاقة وطيدة بقانون الانتخاب ومجلس الشيوخ وبالنظرة الجديدة للبنان التي لا تبقي اللبناني بموقع المحبط"، داعيا للبناء على تجربة البلديات وانجاح هذا المشروع لان المشاركة المحلية تعدّ الكوادر للعمل الوطني.