كان يوم 15 نيسان 2014 يوم الفضيحة الكبرى للنظام السياسي الرأسمالي القائم في لبنان، إذ سقطت أقنعة جميع المتشدّقين بالحرية والسيادة والديمقراطية إلى آخر معزوفة النفاق المخدّر للعقول، وظهر حجم الظلم والقهر في لبنان، حيث يقوم حقيقة حزبان أو فئتان، أو لنقل إثنان: ظالم ومظلوم. ففي لبنان فئة الحكّام مصاصي الدماء والمتربعين على عرش الفساد والسيطرة غير المشروعة والمتمترسين خلف حصون طائفية مقيتة ابتدعوها لحماية مصالحهم ومكاسبهم، وفئة الشعب المظلوم المحروم المنتهكة حقوقه وكرامته وحريته ولقمة عيشة، والمخدّر بشعارات برّاقة خادعة تطلقها فئة الظالمين فتسلب منه العقل والفكر وتسيّره على نحو غرائزي فيصفق لها كيفما تنطق، ويدور معها حيثما تتجه، من دون أن يسأل لِمَ تم التغيير وفي أي اتجاه يسير، فالحاكم ـ الامير هو الذي يفكر وهو الذي يقرّر ويدبّر، وما على الرعية الا الطاعة أو تحرم من الوظيفة ومن اللقمة حتى ومن الأمن وتوضع أمام خيارين، السكوت والطاعة لكسب لقمة العيش، أو الرفض والتمرد مع خسارة الحقوق ومكابدة ضنك العيش أو الهجرة. فكلّ أمير طائفي يقتني، تحصيناً لموقعه، الباب الكاشف للمؤهلات والقدرات، ومن يضبط من طائفته متلبّساً بفهم أو علم أو عنفوان يكون مصيره الملاحقة والتنكيل.

هذه حقيقة الوضع في لبنان الذي أنشئ بقرار فرنسي وفُصّل ليكون مدخلاً غربياً في اتجاه الشرق الأوسط نقول مدخلاً ولا نقول كياناً، فشتان ما بين البيت وأهله، وبين المدخل وحجابه – ولأجل ذلك وضع له نظام طائفي يبقيه ضعيفاً كي يبقى من يتولى الحكم والسلطة فيه دمية في يد الخارج يعينه، أو يفرضه ويستعمله تبعاً لمصالحه، ومنذ ذلك الحين وبعد استقلال الدولة شكلياً، لم يستطع لبنان أن يختار وحده حكامه أو الأشخاص الذين يتولون السلطة فيه، إلاّ وفقاً لما يكون عليه الإملاء الخارجي والتوازنات الدولية والإقليمية. وكانت مقولة الحرية والديمقراطية في لبنان أكثر المقولات إثارة للسخرية فلبنان

لم يعرف يوماً حرية بل عاش الفوضى، ولم يعرف يوماً الديمقراطية بل مارس نفاقاً أسماه «ديمقراطية توافقية» لا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بالديمقراطية الحقيقية التي هي أصلاً وببساطة تامّة حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية، معارضة ترشد وتترقب أن تصبح أكثرية، مستفيدة من أخطاء الأكثرية السابقة، بعد محاسبة الشعب لها وإسقاطها في الانتخابات الحرة النزيهة.

أما في لبنان فإنّ الأقلية هي التي تحكم وهي التي تسود، وهي التي تستمرّ في السلطة وتتقاسم خيراتها حصصاً في ما بينها، فتراكم الثروات لأعضائها ومن سائر الطوائف وتفاقم الجوع لدى الشعب بجميع طوائفه. حتى اذا غاب أحد من هذه الأقلية الأرستقراطية الحاكمة بسبب موت أو عجز مباغت قام وارثه أو وكيله مقامه، وتستمر الأقلية الحاكمة تجدّد نفسها في الأُسر والبيوت ذاتها.

استمرّ هذا الوضع منذ إنشاء الدولة اللبنانية حتى خُرق التوارث العائلي الأرستقراطي المخملي بعد حرب 1975، وبعد اتفاق الطائف مع حلول «طوائف المال والسلاح» - ليست طوائف دينية ولا علاقة لها بالدين فعلاً - مكان بعض أجزاء طوائف الإقطاع السياسي القديم الذي لم يكن للدين أصلاً موقع في سلوكه رغم تقنّعه بالطائفية . ثمّ استؤنفت مسيرة الأقلية الأرستقراطية الحاكمة بعد إعادة تشكيلها، مع تبدّل في بعض الأشخاص وثبات في النهج القائم على الفساد والطائفية.

قامت ديمقراطية لبنان التوافقية إذن على حكم أقلية مشكّلة على أساس طائفي لا علاقة له بجوهر الدين، وتمثلت فيها مكوّنات من الطوائف كلها من دون أن يقوم فعلياً حكم الطائفة، فإذا تقدم أشخاص طائفة معينة في لحظة ما وشكلوا الأكثرية الطاغية في تلك الأقلية لا يعني ذلك أنّ طائفة هؤلاء هي الحاكمة بل تكون تلك الأقلية هي المستفيدة من طائفتها حتى تحكم من دون أن يصل خير الحكم وعسله الى الطائفة عينها.

فعندما قام حكم ما سُمّي «المارونية السياسية» قبل عام 1975، لم يكن موارنة لبنان مستفيدين جميعاً من هذا الحكم، بل كان الحكام جمعٌ من عائلات مارونية متحالف مع جمع آخر من عائلات من باقي الطوائف، وعندما تحوّل الحكم الى ما سُمّي بـ»السنية السياسية» أو بتعبير أكثر دقة بـ»الحريرية السياسية» قامت وأرست حكمها على دستور عدل بعد الطائف، تقدم «الحاكم السنّي» المشهد السياسي ومعه آخرون من طوائف أخرى مستفيدين من السلطة، لكن «الطائفة السنّية « لم تستفد من هذا التغيير، ومَن كان محروماً منها في ظلّ «المارونية السياسية» استمرّ على حرمانه في «الحريرية السياسية»، لأنّ الحاكم باسم السنة والآتي الى الحكم بقوة المال، تربّع على العرش وفاقم الحرمان وأرهق الوطن والدولة والشعب، وزاد من حرمان المحرومين وفي طليعتهم أهل السنة من طائفته.

وعندما أخرج هذا الحاكم من السلطة بسبب سلوكه غير المتوافق مع عنفوان عاشه لبنان ما بعد التحرير الذي حصل بجهد المقاومة المنسّق مع الجيش اللبناني والمحتضن من قبل شعب يتوق الى الكرامة والحرية، شحذ سلاح الطائفية وفجّر الشارع في وجه من حلّ مكانه في كرسي الحكم وحاصره في مدينته وشارعه ومنزله بنار طائفية ذهبت بأمن المدينة وهناء شعبها، ولمّا عاد الى الحكم أخمد النار لينصرف إلى حماية مصالحه متسلحاً بالسلطة التي عاد إليها. وكانت أولى ممارساته في مجلس النواب في مواجهة الطبقة الشعبية التي تسبّب بإفقارها وهمّشها وأرهقها بالديون مذ جاء الى الحكم عام 1992، و لم يتصدّ له في محاولته إلاّ ممثلو الفئة التي قاومت «إسرائيل» وحرّرت القسم الأكبر من أرض الجنوب وتتوق الآن إلى تحرير المواطن من فساد النظام. تصدّت له، لكنّه تغلب عليها بسبب تحالف أصحاب الشهوات في المال والسلطة، وهم الأكثرية في المجلس التي لم تتشكل على أساس ديني أو طائفي بالطبع.

هنا كانت الفضيحة الفاجعة في مجلس النواب اللبناني، إذ تكتل من يسمّون «نواب الأمة» بأكثريتهم المطلقة ضدّ حقوق الشعب بأكثريته الساحقة، ومن الطوائف كلّها بلا استثناء، وظهرت حقيقة أنّ الصراع في لبنان ليس بين طوائف ومذاهب دينية، بل بين طوائف ومذاهب سياسية ومالية واقتصادية، فبسحر ساحر تلاقى اليمين واليسار، واجتمع المتّهم بالفساد مع مَن اتهمه، واتحد من كان يطالب بحقوق الموظف ومصالح الشعب مع من كان سبباً في إفقار الشعب وهدر المال العام. حلف برز على نحو مذهل فأسقط جميع الأقنعة، وأظهر حقيقة الأزمة في لبنان بأنها أزمة نظام وليست أي شيء آخر، فالتعدّد الديني ليس هو المرض بل استغلال التنوّع الديني الحضاري من قبل مصاصي دماء الشعب هو الداء، عبر تحويل الغنى بالتنوع الى علّة في التناحر، وقدمت هيئة التنسيق النقابية المثل الحقيقي على وحدة وطنية لدى الشعب اللبناني، نقيض ما تريد الأقلية الأرستقراطية الحاكمة إظهاره.

بلى، يعاني لبنان أزمة نظام، ولن يكون هناك حلّ إلاّ بحلّ أزمة النظام هذا نفسه عبر إرساء الديمقراطية الصحيحة الصادقة وإقامة حكم الأكثرية الشعبية الحقيقية على أنقاض حكم الأقلية الأرستقراطية المشكّلة من أقليات الطوائف والمتمترّسة وراء صناديق المال الذي جمعته من دماء الشعب وعرقه سرقة واغتصاباً، والمتمركزة في خنادق الطائفية التي حفرتها لتمنع قيام وحدة وطنية حقيقية تمنح لبنان القوة والاستقرار. ولا يكون الوصول الى هذه الديمقراطية إلاّ عبر قانون انتخاب يأتي بالأكثرية الشعبية تلك، ويضع حدّاً لحكم الأقلية الفاسدة. نظام انتخاب يقوم على النسبية المعتمدة في لبنان كلّه دائرة انتخابية واحدة. نظام يراعي وجود الطوائف كي لا تهمّش طائفة أو تلغى من موقع القرار الوطني السيادي. نظام يقيم حقوق الفرد على أساس أنه مواطن في دولة وليس عضواً في طائفة.