ليست استقالة رئيس الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان، أو إعفاؤه من منصبه إلاّ دليلاً جديداً على الخسارة والتخبّط في قضايا ليست الممكلة في مستواها الأمني والعسكري الاستراتيجي، فالرياض أولت هؤلاء تلك القضايا ولم يكونوا رجال حكم يريدون العبور ببلادهم نحو الدولة، بل لجأوا إلى أسلوب «العصابات» أو القبائل في مقاربة الحوادث كلّها منذ اندلاع الأزمة السورية التي كشفت بوضوح ما كانوا يتستّرون خلفه من مواقف وبذل للأموال الطائلة لتدوير الزوايا.

استقالة رئيس الاستخبارات السعودية هي الخطوة الثانية ونتيجة الفشل بعد سحب ملف سورية من حقيبته وإسناده إلى وزير الداخلية محمد بن نايف، في خطوة اعتبرت آنذاك تصويباً لمسار خاطئ سلكه بندر طوال أكثر من عامين من الإشراف والإدارة، إنْ بـ»الأصالة» أو بـ»الوكالة». لكن بن سلطان على ما يبدو ما زال محتفظاً بنزعة التمرّد التي يتصف بها، في خضمّ النزاعات القائمة حول إعادة تشكيل الحكم في الممكلة والتي لن تستطيع القفز فوق مسارات المنطقة من دون أن تنال حصتها منها. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الحراك الشبابي الذي انطلق منذ مدة وبرز الأسبوع الفائت من خلال بعض التقارير التي أوردتها وسائل الإعلام حول مناداته بالتغيير والعدالة الاجتماعية والحقوق المسلوبة من قبل الطبقة الحاكمة.

إلاّ أنّ الاستقالة أو الإقالة بذاتها بلا معنى إذا لم يُلاحَظ أنّ المنصب الذي تركه بندر عُهد به إلى نائبه الضابط الرفيع في القوات السعودية الفريق أول يوسف الإدريسي من خارج السلالة الحاكمة ، ربما للمرة الأولى في تاريخ المملكة، ما يدلّ على أنّ انعطافة كبيرة حصلت في تركيبة النظام أو هي على وشك الحصول، وسيفرز ذلك أداء جديداً في إدارة الملفات أكثر جدية، وإنما لا يعني بالضرورة سلوك طريق إيجابي حيال الملف السوري تحديداً، إنما قد ينتج رؤية أكثر واقعية لواقع الميدان في سورية والإقرار به، وربما الاستنتاج أن لا طائل من استمرار الحرب في ظلّ التوزانات التي رسّختها إنجازات الجيش السوري وحلفائه في جميع محاور القتال الدائر في البلاد.

ليس مستبعداً أن يكون هدف الإجراء السعودي الأخير خلق دينامية جديدة في معالجة الأزمات المتفاقمة، من دون القدرة على حلّها في ظلّ استئثار العقلية الحاكمة بها لعقود طويلة، غير أنّ ذلك يطلق التحذيرات من مغامرات تذهب إلى أبعد من المتوقع حيال ملفات الممكلة الداخلية في المقام الأول، وبالنسبة إلى الخارج، وفي مقدم ذلك الملفان السوري واللبناني وهما الأكثر أهمية للإدارة السعودية إذ يشكل البلدان مساحة «الحرب» القائمة بين الممكلة والجمهورية الإسلامية في إيران، والتي يؤمل أن تسلك اتجاهاً إيجابياً بعد تعيين سفير سعودي جديد في طهران. لكن ذلك في رأي دبلوماسيين ليس كافياً ليبنى عليه، في حين ينبري وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى الدعوة للحؤول دون انتخابات الرئاسة السورية التي دخلت فترتها القانونية.

يعتبر الفيصل أنّ إعلان سورية عن إجراء الانتخابات الرئاسية «تصعيد من قبل نظام دمشق وتقويض للجهود العربية والدولية لحلّ الأزمة سلمياً على أساس اتفاق جنيف»، ما يؤكد مرة جديدة أنّ التفسيرات التي أعطيت لذاك الاتفاق متباينة إلى حدّ كبير، كما أنّ «جماعات السعودية السياسية والمسلحة» في الاجتماعات التي حصلت في مونترو السويسرية بمرحلتيها خرجت منها بقناعة مفادها أن لا عودة إليها لكونها غير «منصفة»، فيما اتفق الفريقان، بلا إعلان، على أنّ «الكلام للميدان»، وذاك ما أصرّا عليه منذ مغادرة سويسرا حتى تتويج قرار استئناف الحرب في سورية من خلال الاتفاق الأميركي السعودي على دعم الجماعات المسلحة التي أشرفا على تزويدها الأسلحة النوعية.

السؤال المطروح راهناً يتمحور حول التطورات التي ستشهدها المرحلة المقبلة بعد سقوط المواقع الاستراتيجية الكبرى في جبال القلمون، وقبلها القصير، وحمص التي دخلت مرحلة حسم آخر نقاطها عقب صبر سنتين من حصار آخر معاقلها، إضافة إلى فشل جميع محاولات اختراق الجبهات من تركيا عبر الحدود الشمالية، إنْ في حلب أو في كسب، وقذائف النفس الأخير التي تسقط على دمشق بين الحين والآخر.

يبدو أنّ التشكيلات السعودية في المناصب الأمنية، وإعادة توزيع الملفات في ما بينها، والنداءات التي أطلقها الوزير الفيصل حول سورية، لن تصبّ إلاّ في خانة إعادة فتح قنوات الاتصال الدولية لإيجاد مخارج للأزمة، من غير أن تتوقف أصوات الرصاص والمدافع، إلى حين تحقيق هدف القضاء على الإرهاب، وإجراء الانتخابات الرئاسية التي سيُصار إلى تحديد موعدها في أقرب وقت ممكن.