نقلت القوى السياسية اللبنانية البلد من صراع السياسة والسلاح إلى ساحات الصراع الاجتماعي، الذي طالما عملت الطبقة السياسية الحاكمة المستحيل لمنع الوصول إليه، ومارست كل الألاعيب لحرف هذا الصراع عن سكته، ومنعت أي اصطفاف حقيقي لفقراء لبنان، أي الأكثرية الساحقة من أبنائه، حتى ولو اقتضى ذلك إشعال حروب وصراعات تقسّم اللبنانيين خوفاً من أن تجمعهم لقمة العيش، فيسقط أصحاب المال عن عروش السلطة والتسلّط.

فجأة "بلعت" الأكثرية النيابية وعودها، وتخلى الصامتون عن صمتهم، فالأمر جلل؛ أصحاب المصارف وأركان الهيئات الاقتصادية غاضبون لأن حفنة ضرائب مستجدّة، وبعضها قديم لم يأخذ طريقه إلى التنفيذ، قد تسحب منهم بعض "غبار" أرباحهم وثرواتهم التي لم تجمع بالحلال، بل من شحّ أو حرام.

في مجالس ما قبل "الطائف" كان التندّر بأن اثنين فقط من أعضاء المجلس النيابي، الذي مُدِّد له أكثر من عشرين عاماً، ليسوا أعضاء في مجالس إدارة مصارف، أما الباقون (97 نائباً) فكانوا في صلب القرار المصرفي، إما بفعل أموالهم المكدسة في تلك المصارف، وإما نتيجة سياسة أصحاب المصارف في التقرب منهم واقتناص نفوذهم السياسي والتشريعي.

ربما تفسر هذه "المعلومة" القديمة سر "مونة" جمعية المصارف على المجلس النيابي، وسر هذا الانقلاب الذي شهدناه يوم الثلاثاء الفائت، فبعد أكثر من سنتين من النقاش والمزايدة في تبنّي مطالب الموظفين المحقّة، انقلبت الأكثرية النيابية، وإذ بها تفضّل إرضاء واحد في المئة من اللبنانيين من أصحاب المصارف ومالكي الثروات، الذين يحتكرون معظم الثروة الوطنية، على حساب 99 في المئة من الشعب اللبناني.

في السياسة، يبدو المجلس النيابي على صورة توزيع القوى في العام 2005، أي قبل توقيع التفاهم بين "حزب الله" و"التيار العوني"، فـ"العونيون" و"المستقبل" وكتلة النائب جنبلاط و"القوات" و"الكتائب" وبقية أطراف "14 آذار" تكاتفوا جميعاً لمنع تمرير مشروع سلسلة الرتب والرواتب، بعد "الإنذارات" التي وجّهتها جمعية المصارف للمجلس النيابي بلهجة غير مسبوقة، استفزت رئيسه وقلة من النواب.

في المقابل، يسجَّل لنواب "حزب الله" ومعهم نواب قوى الثامن من آذار بدء اهتمامهم بحماية الحقوق الاجتماعية للمواطنين، لأن وقوفهم إلى جانب إقرار السلسلة وإعطاء موظفي الدولة المدنيين والعسكريين حقوقهم، التي يقر بها جميع أهل السياسة، هو الوجه المكمّل لحماية الحدود ودرء الخطر الخارجي، فهل يمكن اعتبار ما جرى في المجلس النيابي اصطفافاً جديداً يستكمل الصراع الجاري في البلد، لكن من الباب الاجتماعي؟

من المؤكد أن ما جرى لا يبتعد عن هذا الوصف، لأن الصراع كان وما يزال منذ عقود بين من يريد جعل لبنان "جنة ضريبية" لأصحاب المال والمستثمرين، على حساب التضحية بدور الدولة الراعية لمواطنيها والحامية لحقوقهم، ولو أدى ذلك إلى تحويل حياة اللبنانيين إلى "جهنم معيشية".

كان يمكن أن يشكّل إقرار السلسلة نقطة لصالح الدولة الراعية في وجه دعاة خصخصة كل مرافق الدولة، الذين تركوا حابل الفساد على غاربه وشجعوا على فكفكة الدولة وإجهاض كل ما يؤكد دورها، رغم أنهم الأعلى صوتاً في ادّعاء حمل مشروع الدولة، لكن أصحاب الأموال المكدسة ربحوا "معركة السلسلة"، واضطرت الأكثرية النيابية أن تكشف عن وجه تبعيتها لهم.

دافع "تيار المستقبل" عن مشروعه الاقتصادي النابع من عقلية "الرأسمالية المتوحشة" التي تسيّره، فكان رأس الحربة عبر رئيسه البدل عن ضائع فؤاد السنيورة، الذي وقف ضد إقرار السلسلة عندما كان غيره يفضل الصمت، لكن "اشتراكيي" وليد جنبلاط سرعان ما أعلنوا "انحيازهم الطبقي" لجانب الهيئات الاقتصادية، واكتشف "العونيون" أن كل ما يدعونه من "إصلاح وتغيير" يسقط أمام مصالح أرباب المال والأعمال، لأسباب تتراوح بين رهاناتهم الرئاسية وبين علاقاتهم الاقتصادية و"طبيعتهم الليبرالية"، التي لا يمكن أن تخطئ الحساب ساعة الحقيقة، فتتراجع سريعاً عن "خطأ الانتماء" إلى مطالب الفقراء.

أن تصطفّ قوى الرابع عشر من آذار خلف مشروع "تيار المستقبل" الاقتصادي ورمزية "مشروع سوليدير" في نهب البلد وإفقاره وتجويع ناسه، هو أمر ليس جديداً، لكن أن يكمل "التيار العوني" ما بدأه عندما طعن الوزير السابق شربل نحاس في الظهر، فهو أمر لا يحتاج إلى تفسير مملّ، كثيرون لم يتنبهوا إلى ما جرى مع هذا المثقف الأصيل عندما اختار "العونيون" الوقوف إلى جانب أرباب العمل، على التضامن مع وزير يمثلهم في الحكومة، وإذا كان نحاس يقول إن "كل الأفرقاء السياسيين في لبنان كانوا متوافقين خلال السنوات الـ18 الماضية بعدم حصول تصحيح للأجور وصولاً إلى تفكيك الدولة إفساحاً للمجال أمام تنفيع بعض الأتباع عبر التعاقد الوظيفي، ولو لم تُطرح في 2011 مسألة تصحيح الأجور لما طُرحت اليوم"، فإن الخشية من أن يكون ما جرى في مجلس النواب أمس الأول "بروفة" لانتخابات رئاسية تظهّر صفقات عُقدت من خلف الأصدقاء والحلفاء.