لا شك في أن البرنامج الذي على أساسه أعلن قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ترشّحه لرئاسة الجمهورية برنامج طموح يدغدغ أحلام اللبنانيين ولاسيما منهم فئة الشباب ببناء دولة عصرية، عادلة وقوية.

لم يوارب الدكتور جعجع في كلامه فمنذ مطلع البرنامج حدّد خصومته السياسية مع حزب الله الذي "يقاسم الدولة السلطة والقرار" وطرح على نفسه "التحدي الأهم الذي يكمن في تطبيق الدستور".

هنا بيت القصيد. فالمشكلة تكمن أصلاً في الدستور؛ أي في كتاب العقد الذي يفترض أن اللبنانيين توافقوا عليه لإدارة شؤونهم. فهل اللبنانيون متوافقون فعلاً على الدستور المعدّل بعد اتفاق الطائف؟ وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الدستور يخوّل المرشحين إلى رئاسة الجمهورية طرح برنامج انتخابي، أو لا يخوّلهم، فأي قيمة دستورية وقانونية لهذا البرنامج في نظامنا السياسي الحالي؟

إن قراءة سريعة لبرنامج الدكتور جعجع تظهر بوضوح الفارق بين الواقع والتمنيات. إنه برنامج رئاسي في دولة نظامها غير رئاسي.

إنه برنامج لمرشح يخاطب ناخبيه في نظام لا يعطي للناخبين لا رأياً ولا قراراً في اختيار رئيسهم.

إن لبنان ربما يكون الدولة الوحيدة في العالم التي تمارس الانتخابات الرئاسية بالواسطة وعلى درجتين، أي أن الناس ينتخبون نوابهم وفقاً لقوانين تعلّب النتائج سلفاً، ثم يتولّى النواب انتخاب رئيس للجمهورية، يجب أن يتمّ التوافق على اسمه مسبقاً،

وإلا تتعطل الجلسة ولا تدور صندوقة الاقتراع دورتها. والأمر كذلك في اختيار رئيس الحكومة.

مئة وثمانية وعشرون نائباً يحدّدون مصير رئاسة الجمهورية، فحتى لو كان هؤلاء من صنف الملائكة، لما كان باستطاعتهم مقاومة الضغوط أو الإغراءات من داخل البلاد أو من خارجها.

كيف يكون الرئيس صناعة لبنانية من دون أن يكون لثلاثة ملايين ونصف مليون ناخب لبناني رأي في انتخابه؟

لقد حان الوقت لأن يكون الشعب اللبناني فعلاً مصدر السلطات، كل السلطات، وفي مقدمتها سلطة رئاسة الجمهورية.

إن الرئيس القوي هو الرئيس الذي ينتخبه شعبه، مباشرةً، من دون وسيط ولا تدخلات.

وحده رئيس كهذا يستطيع مقاومة الوصاية وتطبيق القوانين.

وحده رئيس منتخب من الشعب مباشرة يستطيع أن يحاسب وبالإمكان محاسبته.

من مساوئنا نحن اللبنانيين أننا نفتش دائماً عن عذر لأخطائنا وعن طرف نتهمه بما يصيبنا. مرّة نسمّيه المؤامرة الدولية، ومرّة نسمّيه الوصاية، وإذا عجزنا عن اتهام الخارج، لا نتوانى عن اتهام بعضنا البعض.

لقد انكفأ الاحتلال وخرجت الوصاية لكن أزماتنا لا تزال قائمة فلماذا لا نفتش عن الأسباب في داخلنا؟

لقد حان الوقت لتغيير قواعد اللعبة فاستعادة قرار الدولة تبدأ بدستور قادر على استيلاد سلطة صاحبة قرار.

دستور يعطي للشعب وحده حق انتخاب رئيسه وللرئيس حق تكوين فريق عمله.

عندها فقط يصحّ إطلاق برنامج انتخابات رئاسية.

عندها فقط يُحسب للرئيس حساب ويحسب هو للشعب حساباً.

أما اليوم، فإن أي برنامج من هذا النوع، ليس إلا تعبيراً عن رغبة في التشبّه بالأنظمة الرئاسية.

إنه نوع من الفانتازيا طالما أن برنامج الحكم الفعلي هو البيان الوزاري بحسب الدستور القائم، والذي يجعل من مجلس الوزراء مجتمعاً، السلطة التنفيذية الحقيقية.

إذا كنّا نريد بصدق بناء سلطة قوية ترتكز إلى شرعية الناس، وإذا كنا نريد سلطة لبنانية مئة في المئة لا شريك لنا فيها من الخارج، فإن المطلوب قرار جريء يغيّر قواعد اللعبة.

قرار يجعل المواطن ناخباً فعلياً ومباشراً للرئيس، بغضّ النظر عن طائفته أو مذهبه.

من هنا يبدأ التصحيح في الجسم اللبناني المريض بطائفيته ومخاوفه وهواجسه وغبنه وحرمانه.

قرار انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، يجعل اللبنانيين يتشاركون في تحديد خياراتهم السياسية والاقتصادية واختيار سلطتهم بدل أن تتقاسمهم الطائفية وتفرض عليهم خياراتها.

وحده رئيس ينتخبه الشعب اللبناني مباشرة، يستطيع أن يترشح على أساس برنامج يحمل رؤية سياسية واقتصادية وثقافية شاملة، ويكون قابلاً للتنفيذ.

وحده رئيس ينتخبه الشعب اللبناني مباشرة، يستطيع تحويل برنامجه الانتخابي إلى برنامج حكم.

لا ليست أزمة الحكم في الممارسة فقط. إنها في النصوص أيضاً.

إنها في الدستور الذي يوفّر للطبقة السياسية بتناقضاتها، القدرة على استيلاد ذاتها من دون أي تغيير في الجوهر.

ليست المشكلة في ميثاق الحياة المشتركة التي يثبت اللبنانيون كل يوم أنهم يريدونها من دون أي منّة من السياسيين.

فهذا الميثاق ذو جذور اجتماعية – تاريخية سابقة لاتفاق الطائف.

لذا فإن الحديث عن تغيير الدستور، لا يعني أبداً التعرّض للميثاق الوطني، أي لإرادة اللبنانيين بأن يعيشوا معاً فوق أرض وطنهم.

تبقى إشارة واحدة، هي أن نظاماً رئاسياً مركزياً هو وحده القادر على تنفيذ لامركزية إدارية موسّعة من دون أن يتعرض كيان الدولة للتفسّخ.

حسناً فعل الدكتور سمير جعجع بأن حدّد في مستهل برنامجه سقف الصلاحيات التي لا يزال رئيس الجمهورية يتمتع بها بعد اتفاق الطائف، وهي محصورة بالفعل "بلعب دور محوري في توجيه بوصلة الحياة السياسية اللبنانية".

نعم، للرئيس بعد الطائف صلاحية الإمساك بالبوصلة، أما قرار الانطلاق وتحديد وجهة السير، فهو في مكان آخر... فتّش عن الدستور.