رغم كل ما يُقال عن الاستحقاق الرئاسي، وإمكان التوصّل إلى توافق على اسم الرئيس، فإن المؤشرات كلّها تظهر أنّ البلاد تسير في اتجاه فراغ في موقع الرئاسة الأولى لفترة زمنية لا يمكن تحديدها، فالاستحقاق مرتبط بجملة تطورات إقليمية ودولية وما ترسو عليه معادلات جديدة لها انعكاساتها المباشرة على لبنان والاستحقاق الرئاسي فيه.

وإذا كان للعامل الخارجي تأثيره في الاستحقاق الرئاسي، إلاّ أن هذا التأثير ما كان ليبلغ هذا المدى ويؤدي إلى عدم الاتفاق الداخلي على انتخاب رئيس جديد لولا وجود أطراف داخلية ارتضت نفسها جزءاً من محاور إقليمية ودولية المحور الأميركي ـ السعودي تسعى إلى منع وصول رئيس لبناني قوي داعم للمقاومة وينهج خطاً استقلالياً.

يعكس هذا الواقع عمق الأزمة التي دخل فيها لبنان منذ عام 2005، أي بعد صدور القرار 1559، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما أدى إليه من تفجير للصراع على خيارات لبنان السياسية والوطنية، واضعاً نهاية لمرحلة ما بعد الطائف الذي شكّل الصيغة السياسية التسووية لإنهاء الحرب الأهلية التي دامت خمسة عشر عاماً.

الأزمة الجديدة المحتدمة منذ ذلك التاريخ، تطرح الأسئلة حول سبل الخروج منها، وهل في الإمكان مغادرتها عبر صيغ تسووية من قبيل إدارة أزمة، أم أن الأمر يحتاج إلى إصلاحات جديدة تشمل بنية النظام السياسي الطائفي، وبالتالي فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بذلك. هل يكون رئيس إدارة أزمة أم رئيساً إصلاحياً؟

الواضح أن الأزمة نابعة من أزمة تركيبة النظام السياسي الطائفي وأزمة الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يجب أن يسير فيها، فلبنان منقسم سياسياً بين فريقين، فريق يريد تكريس وترسيخ خيار لبنان العربي المقاوم للمشروع الصهيوني ـ الأميركي وغير تابع للغرب، وفريق يريد لبنان جرماً يدور في فلك الاستراتيجية الأميركية ـ الغربية وخاضعاً للوصاية المباشرة الأميركية ـ السعودية.

اليوم فشل المشروع الأميركي ـ الغربي في كسر محور المقاومة في المنطقة، بعد صمود سورية، ما رجّح خيار القوى الوطنية والمقاومة في لبنان. وعزز بالتالي الإخلال في موازين القوى لمصلحة محور قوى المقاومة والممانعة في المنطقة.

هذا التطور أحبط رهانات فريق «14 آذار» الذي كان ينتظر تغييراً في سورية لمصلحته للاستقواء به والقيام بانقلاب جديد في لبنان لمصلحة المشروع الأميركي ـ الغربي. ما يوفر الأساس الموضوعي لإحداث تغيير يعزز خيارات لبنان العربية المقاومة من ناحية، وتحقيق إصلاحات جذرية في بنية النظام الطائفي وسياساته النيوليبرالية المتوحشة.

لكن هذا التغيير يبدو ممكناً من دون بذل جهد سياسي وطني استثنائي لتثمير الانتصار في سورية وتراجع النفوذ الأميركي ـ الغربي في المنطقة والعالم، بغية الدفع نحو إحداث إصلاحات حقيقية يكون مدخلها انتخاب رئيس لبناني يحظى بتمثيل قوي شعبي ونيابي يتبنى برنامجاً إصلاحياً عروبياً مقاوماً.

هذا البرنامج يجب أن يتضمن في جوهره التوصل إلى قانون انتخاب جديد على قاعدة التمثيل النسبي باعتباره المدخل الأساس لأي تغيير في النظام الطائفي يتيح كسر احتكار التمثيل النيابي، وإدخال دماء جديدة من خارج النادي السياسي الرافض للتغيير والذي يعيد إنتاج نفوذه كل أربع سنوات بقانون مفصل على قياس مصالح الزعامات الطائفية والمذهبية.

كما يجب أن يتضمن هذا البرنامج إصلاحات في النظام الاقتصادي المنفلت من أيّ ضوابط، والمرتكز على السياسات النيوليبرالية المتوحشة التي مكنت قلة من تحالف الرأسمال الريعي من الاستئثار بالثروة وامتصاصها، ما أدى إلى تعميم الفقر والرحمان، وسحق الطبقة الوسطى، وما أحبط بالأمس إقرار سلسلة الرتب والرواتب، وأدّت هذه السياسة استطراداً إلى مزيد من إضعاف الإنتاج الصناعي والزراعي، وتراجع النمو والمداخيل الحقيقية وزيادة البطالة وتراجع القدرة الشرائية.

لذا بات يقود استمرار هذه السياسات إلى تفجر المزيد من الصراعات الاجتماعية في البلاد إذ تفاقم من حدة التفاوت في المجتمع، وما لم يتم إعادة النظر في هذه السياسات لاعتماد سياسة تنموية اقتصادية اجتماعية أكثر عدلاً، ولم يتم الإسراع في استثمار النفط والغاز لتحقيق هذه السياسة، فإن الأزمة ستبقى قائمة ومستمرة ولا يمكن القفز فوقها أو اعتماد حلول ترقيعية.

يبدو واضحاً أنه مثلما حصل تغيير اثر أزمة عامة 58، عبر عنه بالإصلاحات الشهابية، ومثلما حصل تغيير إثر الحرب الأهلية تمثل في اتفاق الطائف، فإن الأزمة اليوم لا يمكن أن تضع أوزارها من دون تغيير يستجيب لتطلعات اللبنانيين في إصلاح نظامهم الانتخابي والاقتصادي والسياسي، ويكرّس خيارات لبنان العربية المقاومة.

لكن بلوغ هذا التغيير يستدعي من القوى ذات المصلحة الحقيقية فيه العمل على تكتيل مهماتها، وتبني برنامج واضح يتضمن العناوين المذكورة آنفاً، لاختيار رئيس على أساسها، وصولاً إلى عقد مؤتمر تأسيسي جديد على غرار الطائف لإعادة النظر في النظام الطائفي والانتخابي وإتمام الإصلاحات المطلوبة فيه للخروج من الأزمة المفتوحة.