أثبت شريط التطوّرات الدولية الأخيرة، والممتد من سوريا إلى أوكرانيا فالقرم، أّنّ النظام العالمي يشهد حرباً باردة جديدة، بمفاهيم جديدة. تقوم بين دول "البريكس" من جهة، والدول الغربية ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حيث أنّ لهذين المجموعتيْن مصالح ونفوذ في شتى أنحاء العالم، ولها دوماً الألولوية.

ومع أنّ بداية الأزمة الأوكرانية كانت سياسية المنحى، إلا أنّ تداعياتها كانت اقتصادية، لن توفّر الاتحاد الأوروبي من أضرارها. ولكن طبعاً ما نشهده اليوم لا يشبه أبداً الحرب البادرة التي اندلعت إثر الحرب العالمية الثانية. إلا أنّ الأكيد أنّ ترابط الاقتصادات العالمية ينبىء بحصول تداعيات في أي منطقة من العالم في حال تضرّرت احدى الدول الكبرى اقتصادياً.

ولهذا أعلنت بريطانيا وألمانيا رفضهما للعقوبات على روسيا، لا سيما وأنّ الشريك التجاري الأول لأوروبا هو روسيا، حيث يفوق الميزان التجاري بينهما الـ420 مليار دولار.

ويمكن وصف العقوبات التي فرضت اليوم على روسيا بالعقوبات "الفولكلورية" لأنها ليست بالعقوبات الجديّة. فإيذاء موسكو إقتصادياً، يعني فرض عقوبات على قطاعيّ النفط والغاز اللذين يؤثران على الاقتصاد الروسي، لكن التداعيات ستكون وخيمة على الاتحاد الأوروبي.

وهذا ما يفسّر ارتفاع سعر مؤشر البورصة في روسيا بنسبة 14%، بعد هبوطه مع بداية الأزمة الأوكرانية، ما يعني تعافي البورصة سريعاً، وأنّ المستثمر لم يفقد ثقته بالاقتصاد الروسي.

وللإشارة فقط، فإنّ شبه جزيرة القرم تتمتع بالكثير من المقومات المهمة بالنسبة لروسيا، ويمكن لها أن تكون ورقة ضغط على تركيا التي تحدها من الشمال. ذلك لأنّه، في حال وقوع حرب حرب ساخنة، وتمّ إقفال مضيق هرمز ومنفذ القرم، فقد تواجه تركيا أزمة اقتصادية كبيرة.

ولهذا كان من الطبيعي أن يرتفع سعر الذهب الذي يعتبر ملاذاً آمناً للمستثمرين، وأن يرتفع سعر النفط، كما يحصل عادة عندما تواجه احدى الدول الكبرى المنتجة، أزمة سياسية أو اقتصادية.

عملياً، صار هناك توازن رعب بين القطبين العالميين، الولايات المتحدة وروسيا. ولا يعني ذلك أنّ روسيا باتت محصّنة، ولا ننسى أنّه عند اندلاع الأزمة الأوكرانية فقد تدهور سعر صرف "الروبل" وتدخّل المصرف المركزي لرفع الفائدة بنسبة 1,5%.

ومع ذلك، لا صحّة للتقارير التي تحدثت عن استغلال موسكو للأزمة الأوكرنية من باب إستعادة أسهم شركات نفط كانت تملكها، وقد انخفض سعرها خلال الأزمة. ذلك لأنّ الأسهم العالمية ليست مدرجة على البورصة الروسية. كما أنّه معروف في علم الاقتصاد، أنّه لا يحق لأي فرد أو مؤسسة أن تتملك أكثر من 1 أو 2% وعلى أبعد تقدير 5% من أسهم الشركات المدرجة في البورصة.

ما يعني، أنّ روسيا كانت غارقة في أزمة أوكرانيا بفعل استثماراتها في هذه الدولة. إذ أنّ أكبر مصرفين روسيين كانا من كبار المستثمرين في سندات الخزينة الأوكرانية، كما كانت روسيا من أكبر المودعين في المصارف الأوكرانية التي كانت على شفير الإفلاس.

وبالتالي إنّ الخسائر التي تكبّدتها روسيا في أوكرانيا بفعل الأزمة المالية لا تغطيها الأرباح التي يُقال إن الحكومة الروسية حصّلتها جراء استعادة بعض أسهم شركات النفط المدرجة على البورصة الروسية.

ومع ذلك، يمكن التأكيد أنّ روسيا خرجت منتصرة، بعد ضمّ القرم لما يمثل من موقع استراتيجي. ويظهر ذلك بالأرقام، بدءاً بارتفاع البورصة بنسبة 14% وتحسّن سعر صرف العملة الوطنية أي الروبل، وهما أهمّ مؤشران ماليان اقتصاديان.

أما سياسياً، فيشهد العالم مدّاً وجزراً بين الولايات المتحدة وروسيا، وهناك خشية من فرض عقوبات اقتصادية على روسيا لأنّ تداعياتها ستظهر في الإتحاد الأوروبي. وكذلك تحاول موسكو معاملة واشنطن بالمثل، لناحية فرض عقوبات على بعض المسؤولين الأميركيين.

وبذلك، يمكن إستنتاج عودة نظام القطبين إلى العالم، على المستويين الاقتصادي والسياسي. ولا ننسى أنّ موسكو ليست معزولة، وتقف إلى جانبها دول "البركس" وإيران أيضاً.

في المقابل تسعى واشنطن إلى التفاوض مع موسكو من خلال اعتماد سياسة العصا والجزرة في مناطق النزاع بينهما. إذ أنّ المسّ بالمصالح الاقتصادية هو بمثابة إنذار بحرب عالمية.

ومن الصعب إستبعاد خامس أكبر اقتصاد في العالم الذي يمثل 3% من الناتج المحلي في الاقتصاد العالمي، عن "مجموعة الثماني" أو "مجموعة العشرين"، بسبب الترابط الاقتصادي. إذ ثمة الكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدول غربية في روسيا. كما لروسيا استثمارات مباشرة في الولايات المتحدة وفي أوروبا.

وأبسط مثال على هذا التداخل الاقتصادي، هو قبرص، حيث تحكّمت روسيا بقبرص كون الجزيرة ممراً استراتيجياً للغاز الروسي إلى أوروبا. وبالتالي فإنّ تدخل روسيا بالأزمة السورية هو لتأمين ممر آمن لمصالحها، وأولها خط الغاز، والذي يمتد من إسرائيل، من ثم قبرص، لبنان، فطرطوس، ليصل دول التوزيع في أوروبا. ولكن في المقابل، يفترض تأمين مصالح الولايات المتحدة.

الملفت أنّ واشنطن لم تصارع موسكو في هذه المنطقة، ما قد يدل على تفاهم معين بينهما، حيث يقال إنّ المقابل قد يكون نفوذاً أميركياً في بلاد القوقاز، حيث يمكن للأميركيين بحكم الجغرافيا أن يكونوا أقرب إلى الصين تحديداً.

ولكن حتى الآن، لم ترتح أوكرانيا من أزمتها، وهي اليوم تعاني من ضغوطات اقتصادية، لا سيما وأنّ شركات النفط الروسية رفعت سعر الغاز الذي تشتريه أوكرانيا. كما أنّ الإتحاد الأوروبي لم يخرج بعد من أزمته الاقتصادية، ولا يمكن له ضخّ سيولة لمساعدة أوكرانيا إرضاءً للإدارة الأميركية.

ماذا بعد الأزمتين السورية والأوكرانية؟

يتضح لنا أنّ نسب النمو في الاقتصاد العالمي إلى تحسّن مستمر، سواء في الولايات المتحدة أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي، ما يعني أنّ أي تشنج عالمي سيعيد الاقتصاد إلى الوراء. فيما الهدف هو تحصين الاقتصاد العالمي، وهذا لا يحصل إلا بعد تنفيس الاحتقان القائم، وهنا العين على المفاوضات الغربية مع إيران، حيث قد يتمّ رفع بعض العقوبات عن إيران بما تمثّل من أرض خصبة للاستثمار الغربي.

للإشارة، فإنّ الاقتصاد الأميركي يشهد انتعاشاً وصار على السكة السليمة بعدما انخضت نسبة البطالة إلى ما دون الـ7%، حيث تسجّل البورصات الأميركية أرقاماً قياسية، ما يعني تجديد ثقة المستثمر بالاقتصاد الأميركي، ما سينعكس نمواً على الاقتصادات الأوروبية، أسوة بما حصل خلال الأزمات المالية.