مع اشتداد الصراع الإقليمي والدولي دخل لبنان مداراً غير معهود من "معارك" رئاسة الجمهورية، لا في التاريخ المكتوب ولا المحكي، مع كل التشوّهات المصاحبة، قبل اتفاق الطائف، وبعد اتفاق الطائف "المقهور" من حيث التطبيق، خصوصاً البند الجوهري الذي يتمحور حول المواطنية، من خلال إلغاء الطائفية السياسية كخطوة أولى ضرورية.

لا يمكن لأحد في لبنان أن يتوقّع ما ستؤول إليه الانتخابات الرئاسية من حيث النتائج ربطاً بما يدور إقليمياً حول الجمهورية الصغيرة التي كانت على الدوام، ومنذ ما قبل الاستقلال الرسمي وحتى يومنا هذا، تتأثر بكل الأحداث الدولية، لاسيما أننا نجاور دولة احتلال واغتصاب ليست الآن في ذروة قوتها كي يستعان بها لترئيس شخص ينفّذ الوجه المطلوب لبنانياً ضمن المشروع الكبير بأطرافه الثلاثة المركزية؛ أميركا - "إسرئيل" - السعودية.

في الواقع، ترشّح "قائد القوات اللبنانية" سمير جعجع لمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية ليس فيه من الإثارة شيء، إذا تبيّنت المقاصد الحقيقية للترشيح، لأن جعجع شخصياً، و"قواته" بشكل تنظيمي ومن حيث الارتباطات، وقوى 14 آذار على وجه العموم، يدركون جميعاً استحالة تبوّؤ شخص له من التاريخ الذي يفخر هو فيه، ما له، وما فيه من الموانع الوطنية التي تجعله شخصاً غير مرغوب في أماكن مختلفة من السلطة، فكيف بالموقع الأول في الدولة والسلطة في آن؟

أسباب عدة تكمن واقعياً وراء الترشّح المريب في الأبعاد والاستهدافات، بدأت عملية وضع القواعد الأساسية له بـ"طلقة" التقاط الزهرة من حديقة "الصومعة"، والتي سُمّيت عملية اغتيال، للترويج لاحقاً للرعاية الإلهية التي أنقذت "المنقذ".

القاعدة الثانية، وبعد استهلاك واجترار الأولى، بدأت مع حملات تشويهية للخصوم، وكانت "طائرة" معراب الاستطلاعية، والتي لم يرصدها سوى رادار القوات في معراب.

القاعدة الثالثة، بناء زنزانة مشابهة لتلك التي كان حبيسها في اليرزة بتُهم مثبتة، لعل أشهرها اغتيال رئيس حكومة لبنان وهو يقوم بمهام وطنية ضمن مسؤولياته الوطنية، والمقصود الشهيد رشيد كرامي، وافتعال "الافتتاح الكبير" للزنزانة التمثيلية، للإيحاء أمام الصحافيين بأنه كان معتقلاً سياسياً وليس مجرماً حوكم على أفعاله.

ليس في ترشيح جعجع قُطَب مخفية، فالاصطفاف واضح، وفاضح، وما ردود الفعل على الجولات الشكلية في تسويق جعجع إلا مؤشر يدلّ على صدور أمر عمليات التأييد، ليس للشخص وحسب، بل للبرنامج الذي يحمله، لأن من زكّا الترشيح أيّد حتماً البرنامج، وهنا تكمن الخطورة، رغم أن بعض مكونات "14 آذار" يرفض الترشيح لأسباب شخصية وحزبية، مثل الرئيس أمين الجميّل، الذي يعتبر تأييده لجعجع، اعترافاً بزعامة جعجع، وبالتالي يهدم بيديه ما بناه منذ عام 2004، مع العلم أن المكتب السياسي الكتائبي أعلن تأييد جعجع، وهو ما وصفه مصدر كتائبي بأنه عمل تكتيكي ليس إلا.

ما يهمّ جعجع المتيقّن باستحالة فوزه، "تبييض" تاريخه، ليس أمام اللبنانيين فقط، إنما أمام العرب والعالم، لمرحلة يحلم بها لاحقاً، لأن الترشيح في المفاهيم والقوانين غير اللبنانية لا يمكن لأحد خوض غماره إلا إذا كان بلا خطايا.

في المقابل، فإن فريق "8 آذار" الذي يترك اللعبة الديمقراطية تأخذ مجراها إلى النهاية، مطمئن لاستحالة منح كرسي الرئاسة لجعجع، الذي لن يراها إلا في الأحلام أو أضغاث الأحلام، وهو - أي فريق 8 اذار - يدرك أن الكفة الإقليمية والدولية لن تكون في مصلحة السعودية، التي لديها الاستعداد لاحقاً لتقديم جعجع كما "قادة المحاور" في ليلة ليلاء، ولا بأس من الاستثمار عليه لتحسين الشروط قبل نفاد صلاحيته وسقوط ورقته.

من مواصفات الرئيس اللبناني العتيد أنه لن يكون استعراضياً في الترشيح، ولا همّه حجمه ليقارع حلفاءه والخصوم، ولا ملاكماً ولا ممالئاً، ولم يكن حلمه يوماً جمهورية حدودها من كفرشيما إلى المدفون.. الرئيس المقبل سيكون بلا أدنى شك وطنياً بلا تشوّهات، وهذا الرئيس سيتبلور اسمه بعد الانتخابات الرئاسية في كل من مصر وسورية.