العجز عن انتخاب رئيس من دون رعاية خارجية، هو النتيجة الاولى والاهم للجلسة الاولى لانتخاب رئيس الجمهورية. وقد اظهرت ان المسيحيين المطالبين بانتخاب رئيس قوي للجمهورية غير متفقين على منهجية تلزمهم بالوصول الى هذا الخيار من خلال آلية الانتخاب. وشكل انسحاب فريق 8 آذار من الدورة الثانية اعلاناً صريحاً من مسيحيي هذا الفريق بالتنازل فعلياً عن معادلة الرئيس القوي، لصالح الرئيس التوافقي. ومصطلح "التوافقي" كما هو مطبق في بعض المحطات السياسية اللبنانية المهمة، يعني توافقا اقليميا ودوليا، ينضج توافقا محليا يرضي جميع الاطراف. وفي حالة اختيار رئيس للجمهورية، فهذا يعني الاتيان برئيس توافق عليه قوى 8 و14 آذار بالاضافة الى الكتلة الوسطية التي برزت بقوة في الجلسة الاخيرة ثم تصديق البرلمان على هذا الاختيار بالانتخاب الشكلي. وهذا يعني بالضرورة ان فرصة حصول منافسة انتخابية على الرئاسة الاولى انتهت لصالح رئيس يرضي الجميع. وهي صفة لا تنطبق بالضرورة على مواصفات الرئيس القوي، بحسب تعريف اقطاب الموارنة الاربعة. اي مواصفات لا تنطبق الا عليهم: العماد ميشال عون، والرئيس امين الجميل، والدكتور سمير جعجع والنائب سليمان فرنجية.

ايّ من هؤلاء المرشحين لا يمكن ان يكون محل توافق القوى السياسية الاساسية في البرلمان. وبحكم المواقف المعلنة، فإن الاستحقاق الرئاسي دخل بين فكّي التوافق والفراغ. فليس هناك ما يؤشر الى امكانية الجمع بين التوافق والرئيس القوي في اشخاص الاقطاب الموارنة. لكن البطريرك بشارة الراعي انحاز امس، من على منبر مقر الرئاسة الثانية، الى خيار رئيس يرضى عنه الجميع، حين اضاف تعريفاَ للرئيس القوي وهو ان التوافق على المرشح مصدر قوة وليس ضعفاً لصاحبه. وهو موقف يأتي في سياق فتح نوافذ جديدة من بكركي على الاستحقاق، ويعكس استشعار الكنيسة خطر الوقوع في الفراغ الرئاسي. خصوصا ان عدم التوافق المسيحي على آلية تضمن انتخاب رئيس للجمهورية قبل 25 ايار المقبل، موعد نهاية ولاية الرئيس ميشال سليمان، سيفتح الباب واسعا امام خيار الفراغ، الذي تمّ الاستعداد له بدقة من خلال حكومة المصلحة الوطنية. لا سيما ان هذه الحكومة وفرت لقطبي المسلمين، السنّة والشيعة، حضورا قوياً وفاعلاً، لن يخلّ به الدخول في الفراغ الرئاسي، بل يعزز هذا الحضور انتقال صلاحيات الرئاسة الاولى الى مجلس الوزراء مجتمعاً.

وما سيجعل هذا الفراغ الرئاسي، اذا ما وقع، نتيجة سياسية لعدم التوافق المسيحي والماروني تحديداً، هو زيادة الشرخ المرشح للمزيد من التباعد بين اقطاب الموارنة. وفي ظل العجز عن ايجاد آلية لتوافق قد يستطيعون اليوم الزام حلفائهم المسلمين به، سيكون المسيحيون عاجزين عن فرض هذا التوافق في مرحلة الفراغ الرئاسي. اذ سيتيح مرور الوقت، والعجز في الدائرة المسيحية عن اتفاق لانقاذ الاستحقاق، الى تقدم الشريك المسلم من اجل تقديم العون (ليس ميشال عون بالطبع) والمساعدة على الخروج من المأزق. وهو لن يصل الى حدّ الالحاح، ما دام ان الحكومة مستمرة وناشطة بجناحيها السني والشيعي، وتلبي المتطلبات السياسية التي لا تشترط وجود رئيس الجمهورية في قصر بعبدا.

قد يكون البطريرك الراعي اليوم امام مهمة حماية موقع الرئاسة الاولى من تهميش قادم، بعدما فتحت جلسة الانتخاب الاخيرة الباب واسعا امام الفراغ الرئاسي. وبالتالي فإن ما يضاعف قلق الكنيسة في هذه الحال هو ان هذا الفراغ سيكون من صنع ابناء الكنيسة في البرلمان، ولن تستطيع بكركي ولا سواها تحميل الطرف الآخر مسؤولية حصول الفراغ، طالما ان الثنائي السني - الشيعي قدم، في المواقف على الأقل، فرصة لأن يحسم التوافق المسيحي برعاية بكركي مصير الاستحقاق.

واقع المواقف والاصطفافات السياسية حيال الاستحقاق الرئاسي يتيح للشريك المسلم في الدولة ان يقول: أنا بريء من جريمة الفراغ الرئاسي. ويضيف: لن نسمح بتوقف دورة الحياة في السلطة وما تبقى من مؤسسات الدولة.

ومسار الاستحقاق الرئاسي يتجه ليس الى تأكيد ان الثنائية السنية – الشيعية بابعادها الاقليمية، هي من يقرر اسم الرئيس، بل ثمة ما يشير بقوة الى تسليم مسيحي بالتبعية لهذه الثنائية، لا "الشركة" التي استعاد ذكرها امس البطريرك الراعي من على منبر عين التينة.