لن أنبشَ تاريخ رئيس حزب "القوّات" سمير جعجع المثير للجدل، بل سأسعى إلى التعرّف إليه – وكأنّها للمرّة الأولى – عبر برنامجه السّياسيّ، وتاليًا من خلالِ ما قاله الخميس عبر برنامج "كلام رئيس" مع الزّميل مرسيل غانم على شاشة المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال.

ففي أكثرِ الملفّاتِ حساسيّةً واستراتيجيّةً – وعنيتُ بها ملفّ سلاح المقاومة – بدا المرشّحُ جعجع ساذجًا في مقاربةِ الأمور، إذ فنّد "استراتيجيّته" في مقاربة موضوع سلاح المقاومة على الشّكل الآتي: "نجلس مع "حزب الله" على طاولة الحوار (الّتي تقتصر بحسب جعجع على رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة ووزير الدّفاع ووفد "حزب الله") ومن ثمَّ نقول لهم إنّ الطّقم الحاكم الآن مصرٌّ على قيام الدّولة... ولا يحقّ لكم مصادرة قرار الدّولة وإطلاق الصّواريخ على إسرائيل... وبعد ذلك تسترجع الدّولة تدريجيًّا سلاح المقاومة..."

فبغضّ النّظر عن رفض "حزب الله" بالأساس استقبال وفد القوّات الحامل مشروع جعجع الرّئاسيّ، إلاّ أنّ المرشّح إلى الرّئاسة لم يُشر في المقابلة التّلفزيونيّة، على ماذا يتّكل في تصويرِ نفسِه رئيسًا برتبة "سوبرمان"؟

هل هو يعتمد على دعمٍ إسرائيليّ؟ أم "داعشيّ" من خلالِ الرّهان على سقوط النّظام السّوريّ؟ أم على دعم أميركيّ قال له يومًا عام 1989 لماذا أنت ساكتٌ عن "الجنرال ميشال عون" فانتفض عليه – كما السّوريّ – في عُقرِ "أمن المجتمع المسيحيّ" آنذاك، والّذي كانَ "فوق كلّ اعتبار" عند جعجع... إلى أنْ جاءَته ساعة الصّفر الأميركيّة!

وبالتّالي فخلف هذه "السّذاجة" في إطلالة جعجع المتلفزة، ثمّة "عبثيّةٌ" تُحاكي محاربة طواحين الهواء والمعارك "الدّونكيشوتيّة" المُحتمَلَة، والّتي لا تُحمَدُ عُقباها... فهل هذا ما يطلبُه الشّعب اللبنانيّ اليوم؟

وفي المشروع أيضًا نمطٌ من اللاتوازن في مقاربة الأمور، بعيدًا من الواقعيّة السّياسيّة. فهو غير مؤمن كليًّا بحكومة الوحدة الوطنيّة، بل يريدُها حكومةً "14 آذاريّة" صرف، تكون أداةً طيّعةً في حربه الدّاخليّة المُرجّحَة إذا وصل إلى الرّئاسة طبعًا... كما في تسعيرِ الحربِ السنيّة-الشّيعيّة في جسم الوطن الوهن. وهذا وجهٌ آخر من العبثيّة الانتحاريّة، يتنافَى مع المصلحةِ الوطنيّة اليومَ وفي كلّ يوم!

وفي المشروعِ أيضًا خروجٌ عن ألفباء السّياسةِ، وتَجاهلٌ لفنّ المُمكن الكامنِ في صلبها... وجنوحٌ إلى دولةٍ افتراضيّة مشكوك بحقيقة طرحِها وجديّته.

وأمّا في حسابات جعجع فتجاهل للوقائع، أو تغطيةٌ للتّنافس مع رئيس الكتائب أمين الجميّل، برز في قوله لمرسيل غانم: "قل لي كيف يمكن أن تكون حظوظ الرّئيس أمين الجميّل أكثر منّي؟"... "وإذا كانت كذلكَ فللحديثِ صلة..."

إنّ كلّ ما سبق يأخذ جذوره في خطّ جعجع السّياسيّ الّذي أثبت تشبّثه به ما قبل اتّفاق الطّائف، خلاله، وبعده.

وأمّا الإصرار على ترشيحِه من "تيّار المستقبل" تحديدًا، فلا يمكنُ الرّهان عليه طويلاً... فيما الجميعُ باتَ يعلمُ أنّ المسألةَ لا تتعدّى "فشّة خلقٍ" سمح بها رئيس تيّار المستقبل سعد الدّين الحريري لجعجع، بعد خسارة الأخير رهاناته في عرقلة تأليفِ الحكومةِ الأخيرة، وحفظًا لماء وجه الحليف القوّاتيّ، ولو كانَ الثّمن السّياسيّ في هذا المجال باهظا!

فصندوق الاقتراع تضمّنَ رسالتَين اثنَتَين، عدا سيادَة خيار الأوراق البيضاء البالغةِ المضمون:

* الأوّل إشارة إلى ضحايا جعجع، العائد إلى الحياة السّياسيّة بعفو خاصّ. وهذه الإشارة لا بدّ من التوقّف عندها بغضّ النّظر إنْ كنّا نقبل بها أو نرفضها بشدّة، فتلك مسألة أخرى... لكنّها تؤشّر إلى أنّ العفو لم ينسحب على الذّاكرة الشّعبيّة الّتي لا تُمحى بعفوٍ خاصّ في مناخٍ سياسيّ معيّن... وثمّة ما أشار إليه جعجع بنفسِهِ إلى أنّ زيارتَه الأولى إذا انتُخِبَ فستكون إلى ضريح جنديّ مجهول، وأكثر مِن ضابطٍ معلومٍ – لا مجهول – أعدمهم جعجع على حائط ثكناتِه الميليشيويّة، والتّاريخ يشهد. ومجرّد الاستمرار في دعم جعجع من "المستقبل" لا يمكنُ تحمّل تبعاتُه طويلاً، إذ لا بدَّ من وضعِ حدٍّ للمزحةِ تلك...

* الثّاني حصول الرّئيس السابق أمين الجميّل على صوت – إشارة في صندوق الاقتراع، هو بمثابة الكلمة – السرّ للجولة الثّانية من اللعبة الانتخابيّة. فواضع الورقة تلك هو من صفوف الرّابع عشر من آذار حُكمًا، ومن ناحيةٍ شماليّةٍ هالَها تبنّي جعجع رئاسيًّا، في وقتٍ لم يهضمه الشّارع الطّرابلسيّ بعد حليفًا... وذلكَ يحشُرُ بالتّالي فريقَ الرّابع عشرَ من آذار ويفرّق صفوفه في المدى الطّويل بدلاً من جمعه...

وعليه باتَ على جعجع تسليم راية الترشّح من فريق 14 آذار إلى شخصيّة تكونُ مؤهّلَة للمّ الشّمل، على ما أعلنَ البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الرّاعي. وهذه هي المرحلة الثّانية من درب الرّئاسةِ اللبنانيّة، الّتي تُعطي المرشّحَ جعجع مكاسبَه في السّباق على الرّئاسة، وتعوّض لَه عن استحقاقَي حكومة تمّام سلام الّتي خرج من موردها "من دونّ حمّص"، والرّئاسَة الّتي رفع فيها السّقف إلى حدّ التّهديد ما بين سطور مشروعه بالحرب الأهليّة المحتّمة!

وثمّة مراحل كثيرة كمراحلِ "درب الصّليب" الأربع عشرة، الّتي يؤمَل في نتيجتها بالظّفر برئيس بحجم طموح الشّغب وحاجة الوطن.