مع تزايد عدد الوسطاء الساعين لوقف حرب «إسرائيل» على غزة يتزايد عدد الصواريخ التي يتبادلها الطرفان المتحاربان. إلى مصر، التي تعتبر نفسها أوْلى وأقدر من غيرها على إدارة وساطة ناجحة، ثمة محاولات وساطة تركية وقطرية وأميركية وفرنسية. دول العرب الأخرى نأت بنفسها عن الاهتمام بهذه المهمة العويصة، تاركةً الأمر لمصر وأميركا و… محمود عباس.

مصر معنية بالوساطة أكثر من غيرها. فقطاع غزة الذي أدارته طويلاً 1948 لغاية 1967 يدخل تاريخياً في مداها الحيوي ومجالها الإستراتيجي. ازدادت أهميته بعد إقصاء الإخوان المسلمين عن الحكم في القاهرة واتهامهم بدعم التنظيمات الإسلامية الإرهابية في سيناء ضد الجيش المصري. بحق أو بغير وجه حق، اتهمت القاهرة عناصر إسلامية متطرفة على صلة بحركة «حماس» بدعم الإرهاب والإرهابيين في مصر. «حماس» أنكرت علاقتها وردّت على حملة اتهامها بتحميل مسؤوليتها إلى أوساط مصرية ممالئة لـِ «إسرائيل».

بدأت مساعي الوساطة، إذاً، في غمرة جوٍّ من الارتياب المتبادل بين القاهرة و»حماس» لدرجة أن الأولى لم تستشر الثانية في شأن بنود مبادرتها الأولى. على رغم تجاهلها، لم ترفض «حماس» المبادرة إلاّ بعد أن رفضتها سائر تنظيمات المقاومة.

إلى ذلك، ثمة مفارقة غريبة اكتنفت المبادرة. فعندما أطلق نائب رئيس المكتب السياسي لـِ «حماس» موسى أبو مرزوق تغريدة مفادها أن أحداً لم يتصل به خلال وجوده في القاهرة، سارع المتحدث باسم «حماس» في غزة سامي أبو زهري إلى التصريح بأن الحركة غير ممثلة في المفاوضات الجارية، وأن أبا مرزوق قيادي مقيم في مصر… ليس إلاّ.

رافق هذا الموقف تسريب خبرٍ نُسِبَ إلى مدير مخابرات «حماس» مفاده أن الحركة تفضل وساطة تركيا وقطر على غيرها، وأنها طلبت إلى أنقرة مباشرة مساعيها في هذا السبيل. في السياق ذاته، جرى الإعلان عن زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لتركيا لتنسيق الوساطة المرتجاة.

السعودية تدعم وساطة مصر بقوة وتعارض اتجاه تركيا وقطر إلى مزاحمتها. فالرياض ناصرت المشير عبد الفتاح السيسي من البداية في صراعه مع الإخوان المسلمين ولن تسمح لمن تعتبرهما حاضنتين معلنتين للإخوان بأن تنتزعا من مصر دور الوساطة. وعندما شجعت الولايات المتحدة تركيا وقطر ومحمود عباس على إقامة خط وساطة موازٍ للخط المصري، رفضت القاهرة والرياض المحاولة الأميركية ما أدى إلى سحبها. غير أن ذلك لم يمنع عباس من زيارة أنقرة وأخذ العلم بحملة رجب طيب أردوغان على الرئيس السيسي ووصفه بالطاغية المتواطئ مع «إسرائيل» ضد «حماس»!

«حماس» لم ترفض، بالتأكيد، محاولة أنقرة والدوحة الدخول على خط الوساطة. لكنها لم تُظهر علناً أي مفاضلة بين الخطين المصري والتركي. لعلها لا تمانع في قيام مزاحمة بين جميع الوسطاء المعلنين والمحتملين من أجل الحصول على أفضل الشروط.

ما كانت «حماس» لتبدي كل هذه الصلابة ضد «إسرائيل» وإزاء الوسطاء الذين يتعاطون بمرونة مع حكومة نتنياهو لولا عاملان وازنان. الأول، وحدة فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة ونجاحها في بناء بنية عسكرية متقدمة فوق الأرض وتحتها وبالتالي قدرتها على مواجهة «إسرائيل» لمدة طويلة. الثاني، إمساك قيادة «كتائب القسام»، لا المكتب السياسي، بجسم «حماس» وأجهزتها وذلك بالتعاون مع قادتها الراديكاليين وفي مقدمهم محمود الزهار.

هذه الصلابة والفعالية والصمود أربكت «إسرائيل» حكومةً وجيشاً وجمهوراً. فقد أدركت أنها غير قادرة فعلاً على ليّ ذراع المقاومة وحملها، كما في عدوانيّ «الرصاص المسبوك» 2009 و»عمود السحاب» 2012 ، على القبول بـِ «تهدئة» تنطوي على ميزانِ ردعٍ في صالح الكيان الصهيوني. ليس أدل على محدودية قدرتها من تقدير الموقف الذي نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت» 17/7/2014 عن مصدرٍ رفيع في قيادة الجيش «الإسرائيلي» مفاده «أنه في ظل الأوضاع القائمة حالياَ لا يمكن تحقيق حسم في المواجهة العسكرية الدائرة بين «إسرائيل» وحركة «حماس» وباقي المنظمات في قطاع غزة».

أجل، «إسرائيل» غير قادرة على حسم المواجهة لمصلحتها، لكنها ستثابر على تصعيد الحرب ضد المقاومة براً وبحراً وجواً أملاً في تقتيل وتهجير وتدمير أكبر عدد من الفلسطينيين ومنازلهم. فالحرب تعني المزيد من الاستنزاف مع إمكانية احتلال مساحات من أراضي القطاع محاذية للأراضي المحتلة في الشمال والشرق والجنوب على نحوٍ يمكّن «إسرائيل»، عندما ينجح الوسطاء في إقرار وقفٍ لإطلاق النار ومباشرةٍ للمحادثات، من التفاوض من مركز قوة، أو هكذا تظن.

المقاومة تبدو مستعدة لمواجهة التصعيد العسكري الإسرائيلي وتعطيل مراميه الامنية والسياسية، بل هي واثقة من قدرتها على ايذاء العدو ومنعه من تحقيق مقاصده. لعل مصدر الثقة هذه قدراتٌ وإمكانات تؤهلها لتفجير مفاجآت عسكرية غير مسبوقة في وجه العدو من شأنها تغيير قواعد اللعبة ومنعه من تحقيق مراميه. ولعلها تنتظر أيضاً مواقف سياسية حاسمة من قيادات وازنة في الضفة الغربية تقلب الوضع لمصلحتها وتوسّع دائرة الثورة على الاحتلال.

في هذا المجال، أرى أن ما يُفضي بالضرورة إلى قلب الوضع لمصلحة المقاومة في الضفة، مبادرةٌ من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الوحدة الوطنية قوامها وضع اليد على «السلطة الوطنية الفلسطينية» في رام الله الأمر الذي يعني، في الواقع، الحلول محل محمود عباس المنتهية ولايته أصلاً.

مع تجاوز سلطة عباس، تسقط عملياً اتفاقات أوسلو، وفي مقدمها اتفاق التنسيق الأمني مع «إسرائيل»، ما يؤدي بالضرورة إلى تفجير انتفاضة ثالثة وبالتالي مقاومة شعبية في الضفة، سيتجاوب معها دونما شك فلسطينيو الأرض المحتلة عام 1948.

هكذا يتحوّل «البنيان المرصوص» من عمليةٍ للدفاع عن وجود الشعب الفلسطيني وأمنه في قطاع غزة إلى حرب تحرير وطنية وشعبية تلف فلسطين كلها من البحر إلى النهر ومن الشمال إلى الجنوب.

هل آن أوان إطلاق «الوعد الصادق» الفلسطيني؟