مَن يسعى إلى تهجير المسيحيين من أوطانهم العربية؟

لمصلحة مَن هذا الاستهداف المتمادي للوجود المسيحي في الشرق؟

هل يمكن تصوّر ماذا يعني خروج المسيحية من أرض المهد، وإسقاط صيغة التعايش والتكامل التي بشّر بها الإسلام؟

لماذا هذا السكوت المريب من الغرب المسيحي على ما يصيب مسيحيي الشرق من مآسٍ وويلات، معظمها من نتائج السياسات الغربية الاستعمارية والغبية؟

وهل صحيح أن تحقيق الدعوة الصهيونية بإقامة «الدولة اليهودية» في فلسطين، يتطلب ضرب كل صيغ التعايش والتحاور والتعاون بين الديانات السماوية؟

تساؤلات كبيرة تفرضها تداعيات الحملة الفوضوية والمغرضة التي يتعرّض لها المسيحيون في أكثر من بلد عربي، وخاصة في سوريا والعراق، وتحديداً ما يجري في مدينة الموصل العصماء، والتي كانت حتى الأمس القريب، واحدة من قلاع العروبة التي تجمع في ثناياها المسلم إلى جانب أخيه المسيحي، والعربي إلى جانب الكردي والتركماني، وتحافظ على معالم الحضارات الإنسانية العريقة التي نشأت فيها على مر التاريخ.

ما جرى، وما زال يجري في بلاد الشام والعراق من ممارسات ضد المسيحيين، الذين حافظت على وجودهم وحقوقهم الدول الإسلامية المتعاقبة، منذ بزوغ فجر الدولة الإسلامية الأولى، إن ما يجري هذه الأيام يهز وجدان وضمير كل مسلم، والإسلام من مثل هذه المعاملات براء، وتعاليم الدين الحنيف لا تمتّ لمثل هذه السياسات لا من قريب ولا بعيد.

ولعل ما يزيد هذه المشكلة تفاقماً في هذه المرحلة، أن العديد من المنشآت والرموز الإسلامية، تتعرض أيضاً للاستهداف والضرر بمبانيها، من مساجد وأضرحة ومراكز أثرية ذات قيمة تاريخية مميزة، من دون أن تتمكن الجهات الرسمية المعنية من صدّ الهجمات عنها، أو حمايتها من عبث الغدر أو التطرّف، الأمر الذي يُشجّع المتطرّفين على المضي في غلوائهم، وإزالة كل ما يتعارض مع توجهاتهم المتشددة.

* * *

في ظل هذا العجز الرسمي عن التصدّي لموجات العنف والتطرّف، لا يجوز أن تبقى القوى الحيّة في مجتمعاتنا متفرّجة، أو حتى مستسلمة لهذا الخلط المتفاقم بين ما هو سياسي ووطني، وبين ما هو ديني أو فتنوي.

المعركة من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في أوطاننا، لا تخوضها الجماعات التي لا تعترف بثقافة الآخر، ولا تقبل بوجود الآخر، وتنكر على الآخر حرية المعتقد والتفكير، التي كفلها الدين الحنيف: «لا إكراه في الدين».

معركة إسقاط سياسة الإقصاء والتهميش التي طبقها المالكي ضد مواطنيه السنّة من أهالي الأنبار، لا تبرّر تهجير المسيحيين، أو التعرّض لرموزهم ومقاماتهم الدينية، بل لا يمكن أن يقبل بها أهل السنة في الأنبار، وعلى امتداد المنطقة العربية بمثل هذه الممارسات الظلامية، التي تخدم أعداء الإسلام، وتلحق أفدح الأضرار بالمسلمين.

* * *

ليست مجرّد صدفة، أن يرتفع وسط هذه المعمعة صوت الاعتدال من لبنان، ويطلق سعد الحريري، بما يُمثل ومن يُمثل، لبنانياً وعربياً، صرخة استنكار مدوّية لما يتعرّض له المسيحيون في العراق، مؤكداً الحرص على شراكة العيش الواحد، والمصير الواحد، ومواجهات الملمات صفاً واحداً.

ولعل تركيز الحريري على دور الخيار المسيحي في حسم الاستحقاق الرئاسي، تكريس لمفاهيم و روحية الشراكة الوطنية، بعيداً عن الضغوطات المغرضة، وممارسات القوة المفرطة.

وتجلّت هذه المفاهيم، التي أرسى قواعدها الرئيس الشهيد رفيق الحريري في اتفاق الطائف، في سلسلة خطوات عملية، بدأت في فتح ذلك الحوار الجريء مع العماد ميشال عون وتياره السياسي، من جهة، واستمرت من خلال التنسيق الدائم والمميز مع البطريرك بشارة الراعي، إيماناً بمرجعية بكركي المسيحية، وتعزيزاً لدورها الوطني الشامل.

وكأني بزعيم المسلمين في لبنان أراد أن يبعث برسالة مدوية إلى العالم، في هذا الشهر المبارك، تؤكد على التمسّك بالوجود المسيحي في الشرق، وعلى اعتبار لبنان بمثابة المثل والمثال لصيغة الشراكة في المواطنية بين المسلمين والمسيحيين، بعيداً عن جداول العدّ، والإحصاءات السكانية!

* * *

ولكن الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق ليس مسؤولية سعد الحريري، ولا هي مهمته وحده، بقدر ما هي مسؤولية المجتمع الدولي الذي يجب أن يضع الخطط الناجعة لمكافحة الإرهاب، بدءاً من إرهاب الدولة الذي تمارسه الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة والضفة، وفوق كل حبة تراب في فلسطين!