مع احتدام الصراع السياسي الدولي، لا سيما بين الولايات المتحدة الأميركية كزعيمة لمحور الاستعمار الجديد، والدول الهادفة إلى إعادة التوازن العالمي، من خلال إيجاد صيَغ تمنع الغطرسة الأميركية المتمادية، انعقدت قمة الدول الخمس التي اتخذت لنفسها تسمية دول "بريكس" في البرازيل، كدول لها اقتصادات تنمو بقوة، وتضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا كدول محورية في العالم، ولكل منها في الحيز الجغرافي والسياسي كذلك امتدادات يمكن أن تشكل روافع حقيقية في المستقبل، لا سيما في أميركا الجنوبية (اللاتينية)، خصوصاً أن القارة المذكورة التي عانت من السياسية الأميركية طويلاً وما تزال بعض دولها تعاني حتى الآن، تنحو باضطراد نحو مواجهات مع الولايات المتحدة، التي تعتبر تلك الدول من "حدائقها الخلفية".

إن التريّث في المواجهة مع واشنطن حتى الآن في تلك البقعة من العالم هو الطابع الطاغي حتى الآن، مع مراكمة الأوراق المستفاد منها لاحقاً، خصوصاً أن الإنهاك التدريجي هو تكتيك لا بد منه في إطار استراتيجية كشف العدوانية الأميركية التي لم تترك مكاناً في العالم إلا وطرقته ضمن استراتيجية الفوضى الشاملة.

تأجيل المواجهة السياسية الشاملة مع الولايات المتحدة، والشقّان الأمني والعسكري ضمناً، لم يمنعوا الدول الناهضة اقتصادياً، والتي تحوز على نصف الثرواث العالمية مع نصف قدرات اليد العاملة عالمياً، من وضع المداميك الاقتصادية في إطار الوعي العالمي للخلاص من التحكم الاقتصادي وتالياً السياسي للولايات المتحدة بمصائر غالبية دول العالم، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ومن خلال اخطر مؤسستين ماليتين هما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين طالما عملا في توظيف القتلة الاقتصاديين من أجل تطويع الدول بعد إفلاسها أو ارتهانها المالي، لتصبح طوع بنان واشنطن السياسي.

لقد انتقلت دول "بريكس" إلى أول خطوة جدية في إطار البنيان العالمي الجديد، من خلال الاتفاق على إنشاء منظمة مالية خاصة بالحلف الصاعد، قوامها مصرف جديد للتنمية، وصندوق للاحتياطات النقدية الطارئة برساميل تصل إلى 150 مليار دولار ستُستثمر في مشاريع للبنى التحتية، على أن تتعاقب الدول المكوّنة على الرئاسة لمدة خمس سنوات لكل منها، بداية من الهند إلى البرازيل..

تأسيس هذه المنظمة المالية التي سعت واشنطن إلى إجهاضها، أو على الأقل إلى تأجيل إعلانها، شكّل صدمة غربية شاملة، سيما أن الدول الأكثر استفادة ومنفعة من الصندوق ستكون الدول النامية، والتي تعمل واشنطن على إخضاعها من خلال صنوق النقد والبنك الدولييْن، خصوصاً مع اكتمال اقتصاديات الدول الخمس المؤسِّسة لمجموعة "بريكس"، وهذا يعني فك القبضة الأميركية عن رقاب الدول المتطلعة إلى الانعتاق من جهة، واستقطاب الدول المحتاجة إلى العون الاقتصادي دون الخضوع للابتزاز الأميركي، في خياري الخضوع السياسي أو التفليس الاقتصادي المُرّ.

لقد حرصت دول "بريكس" على تطمين الدول المتوجِّسة، لا سيما الولايات المتحدة، بشكل محدد أن المجموعة الدولية الجديدة ليست حلفاً عسكرياً، بالتوازي مع انتقاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لـ"تباطؤ الولايات المتحدة في إصلاح صندوق النقد الدولي"، الذي قررت الدول المكوِّنة لـ"بريكس" عدم اللجوء إليه من خلال إنشاء مصرف الاحتياط النقدي كبديل عنه، إذا حصلت أزمة نقدية، سيما أن مجموعة "بريكس" ستتخلص من الدولار كوحدة نقدية تتحكم بالعالم.