... وهذه المرّة كأس “داعش”. هنا الموصل، وعلى بعد كيلومترات منها دهوك وإربيل، حيث لا تلمح عيون المسيحيين حرف “ن” على جدران ممتلكاتهم التي غادروها كي لا تُغرِقهم إهانة “الفدية”. هناك، في بعض المناطق الآمنة يعيش المهجّرون اليوم تحت رعايةٍ كرديّة. وهنا، في بعض الأحياء التي يقطنها عراقيون على اختلاف مشاربهم، وفي المجامع الدينية، وفي التجمّعات التضامنية صلواتٌ وحكايا أخرى.

ليس طعم التهجير جديداً على مسيحيي العراق وهم الذين استهلوا قصص النزف المسيحي المشرقي يوم فرّ أولهم من التفجيرات الدامية. اليوم يبدو المشهد مختلفاً، “الإهانة” أكبر على ما يشعرون، ففي الأمس هربوا من الموت طوعاً ولكن هذه المرّة أكرهوا على الرحيل ضمن مهلة ساعات. فكيف يعيشُ هؤلاء العراقيون اليوم؟ وكيف يتفاعلون مع الحملات التضامنية التي تشاطرهم وجع الرحيل؟ وأيّ رسالةٍ ينقلونها الى مجمع بطاركة الشرق الأوسط وأهلهم في لبنان؟

الموصل فارغة

يؤكد معاون بطريرك بابل على الكلدان، المطران شليمون وردوني، في حديثٍ خاصّ لـ”​صدى البلد​” أن “حالة المسيحيين المهجّرين من الموصل التي ينقلها الإعلام غير مبالغ فيها البتّة لا بل هي أقل بكثير من الواقع، إذ إن الموصل وبعد ألفي سنة من المسيحية تبدو اليوم فارغة من المسيحيين الذين هم عنصر أساسي منها. كم عملوا فيها من الحضارة والحياة الاجتماعية والدينية وكلّ ما كان عليهم أن يعملوه في التربية والدفاع عن الوطن، وإذ بنا اليوم نستفيق لنجد الموصل بلا مسيحييها”. وشدد وردوني على أن “نحو ألف عائلة هُجِّرت في المرة الأخيرة وسبقها في الأسابيع والأشهر والسنوات الماضية أكثر من 25 ألف مسيحي في الموصل، ولكن الأعداد ليست مضبوطة إذ ليس هناك دفتر يوثّق عدد العائلات التي تركت الموصل”.

... بالسيف يُقتَل

المعروف اليوم أن “الدولة الإسلامية” تحكم بحدّ السيف، ما الذي حال دون استهداف هؤلاء المسيحيين إعدامًا أو صلباً كما شهدت مدنٌ سورية عدة؟ يجيب وردوني: “السبب أن عناصر الدولة الإسلامية أعطوا المسيحيين مهلة للخروج من بيوتهم قبل أن يقتلوهم ولكن الحمد لله خرج المسيحيون في الوقت المحدد لذا لم يُستعمل السيف ولن يُستعمَل أبدًا لأن الذي يقتل بالسيف بالسيف يُقتَل”. ولفت الى أن “المهجّرين يتوجّهون الى القرى المسيحية التي تقع خارج الموصل، وهناك من توجّه أيضًا الى دهوك وإربيل، أما إذا كان هناك من يحمي المسيحيين فهم في الواقع الأكراد القاطنون في تلك المناطق والذين قدموا خدماتٍ جيدة لهؤلاء المسيحيين واستقبلوهم واحتضنوهم”.

لولا الصلاة...

كثيرةٌ هي الحملات التآزرية مع مسيحيي العراق ومن ضمنها تحرّكاتٌ لبنانيّة يحتضنها الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي. وفي هذا المضمار قال وردوني: “نشكر جميع الذين تضامنوا مع مسيحيي الموصل وإن كان ذلك متأخراً لأننا لو لم نصرخ ونقل ونتكلم لما سمعنا بأحد تظاهر أو تحرّك ولم نرَ أي تضامنٍ فعلي إلا خلال الأيام الثلاثة الأخيرة بعدما صرخنا مع الأطفال والنساء والشيوخ الذين عوملوا بالسوء عندما تركوا بيوتهم ومقتناهم وأخذوا بعض الأشياء معهم وإذ بهم يلتقون بأشخاصٍ مسلّحين نصبوا لهم الكمائن ليسلبوهم كلّ ما لهم”. أما الى مسيحيي العراق في لبنان فرسالة من وردوني: “عيشوا حسبما يريد اللبنانيون وحسب قوانين هذا البلد الذي جهد ولا يزال لاستقبال المهجّرين. وأقول لأبنائنا أن يُظهروا أخلاقهم الحسنة في تعاملهم وفي حياتهم ويومياتهم، وأن يصلّوا لأهلهم في العراق كي يبقوا ويتشبّثوا ويصمدوا على أمل العودة. الصلاة أساس كلّ شيء ولولاها لما كنا نستطيع أن نعيش هذه الحياة بقسوتها وبالمعاملة السيئة لمسيحيي الموصل. طلبت من كلّ الشعوب أن تصلي لمسيحيي العراق وها أنا أكرر الدعوة اليوم”.

باقون إلا إذا...

وشدد وردوني على أن “المسيحيين اليوم يشعرون بإهانة أكبر من أي وقتٍ مضى، كيف لا وهم يُطردون عنوةً من بيوتهم وهم الذين عاشوا ألفي سنة كمسيحيين يُهجّرون اليوم بهذه القسوة وبهذا الضمير الميت والتصرفات غير الأخلاقية”. ولكنها الحال نفسها التي عايشها مسيحيو سورية وما زالوا يعايشونها على أيدي الإسلاميين المتشددين؟ يتلقف وردوني: “هي حال كلّ من اضطُهِد من أجل المسيح”. هؤلاء المهجّرون باقون في العراق أم سيتركونه قريباً؟ يجيب: “حتى الساعة هم باقون ولكن إذا صعُبت الحالة أكثر فإن غالبيّتهم ستترك العراق”.

رسالة الى البطاركة

وما إذا كان هناك تعويلٌ من مسيحيي العراق على مجمع بطاركة الشرق الأوسط وعلى رأسهم الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قال وردوني: “قبل أيّ أمر لا بدّ أن نشكر البطريرك الراعي الذي تكلم هاتفياً مع غبطة أبينا البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو مستفسرًا عن وضع مسيحيي الموصل ومتضامناً معهم. ونقول لآبائنا البطاركة: حاولوا أن تعملوا بيدٍ واحدة وبقلبٍ واحد متّحدين كي نحافظ على المؤمنين في الشرق الأوسط لأننا منذ بضع سنوات شعرنا بأن هناك مؤامرة لتفريغ الشرق الأوسط من مسيحييه ولكن البطاركة آباءنا عليهم أن يعملوا كما عملوا الى حدّ اليوم كي يثبت أبناؤهم في بلدانهم، في هذا الشرق الأوسط، متحدّين مضحّين بحياتهم لأجل بعضهم بعضاً”.

لكم منا صلاة

هو قدرُ مسيحيي العراق، وهو قدر إخوانهم في لبنان، أن يفترشوا الشوارع دفاعاً عن تلك الـ “ن”، أن يخرجوا بعماماتهم وصلبانهم في مشهدية متجانسة ليقولوا لهؤلاء الهاربين من سيوف الدولة الإسلامية: لكم منّا صلاة.

... وفي لبنان وجعٌ و«ن»

انطلقت منذ أيامٍ حملة فايسبوكية ارتقت بشعار”كلنا ن” وهو الحرف الذي استخدمته “الدولة الإسلامية” كوصمة على جدران الممتلكات التي غادرها أصحابها المسيحيون، في إشارة الى أن هذا الممتلك يعود الى نصراني. ولاقت الحملة في لبنان انتشاراً واسعاً على “الفايسبوك” بعدما سرت دعواتٌ الى المسيحيين لاستبدال صورهم بحرف “ن” تضامناً مع المسيحيين المهجّرين في الموصل. تلك الحملة سرعان ما ارتفعت أصواتٌ كنسيّة إزاءها من باب التصويب ورفض عبارة “نصارى” لأسبابٍ وتفسيراتٍ عدة بدا أكثرها رواجاً الرأي القائل إن النصارى لا يؤمنون بألوهية المسيح وموته وقيامته فيما المسيحيون يفعلون.