تبدو الأطراف المتصارعة في الشرق الاوسط مندفعة إلى دفع الأمور في اتّجاه مزيد من التعقيد، فترتفع السخونة في العراق وسوريا وغزة مع تسجيل ومضاتٍ إيجابية لا تكفي للبناء عليها.

هكذا يمضي تنظيم «داعش» في العراق في تثبيت ركائز دولته متسلّحاً بالعطف الذي يلقاه من أبناء المناطق الواقعة تحت سلطته، ويُحضّر لجولة قتال جديدة تستهدف هذه المرة العاصمة بغداد.

وصحيح أنّ إشارتين إيجابيّتين ظهرتا خلال النجاح في انتخاب رئيس الدولة وقبله رئيس مجلس النواب، إلّا أنّ العقدة الاهم تبقى في رئاسة الحكومة حيث لم تُترجم الدعوات إلى استبدال نوري المالكي بشخصية اخرى على أرض الواقع، ما يعني أنّ الرهان على تليين مواقف الاطراف المتقاتلة من خلال نار «داعش» لم يؤدِّ غايته، والنتيجة الوحيدة التي تحققت هي طرد المسيحيين من الموصل في خطوة تبدو قابلة للتكرار في مناطق عراقية اخرى ومناطق سورية أيضاً.

ولكن يتردّد على نطاقٍ ضيّق أنّ إيران وافقت على إزاحة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وأنّ اتصالاتٍ تجري لاختيار شخصية بديلة، ما قد يعني بدايةَ انفراج بدءاً من العراق، والأكيد أنّ الأزمة الرئاسية في لبنان قد تجد لها حلاً سريعاً في هذه الحال.

في سوريا باشر تنظيم «داعش» حربه الواسعة ضدّ النظام بعدما نجَح في اقتناص هدفين ثمينين: الأول الامساك وحده بمساحة جغرافية مترامية الاطراف واحتواء كثير من المجموعات المحسوبة على المعارضة، والثاني الإمساك بثروة نفطية قادرة على تأمين مداخيل كبيرة تسمح له بهامش واسع من الحركة والقوة.

في المقابل، تابع النظام السوري تقدّمه العسكري ولكن وفقَ وتيرة بطيئة في انتظار انتزاع تأييد عربي بعدما انقلبت الصورة رأساً على عقب.

وفي غزة لم يعد أمام رئيس الحكومة الاسرائيلي بنيامين نتيناهو سوى خيار الاندفاع الى الامام في عمليته العسكرية على رغم إدراكه أنّ ذلك سيُعمّق من مأزقه.

فالهدفان اللذان وضعهما لحملته العسكرية، وهما تدمير الأنفاق والقدرات الصاروخية لحركة «حماس» لم يتحقّقا، ويبدو أنّ «حماس» التي استعدَّت جيداً لهذه الحرب لديها خططها الكاملة لمنع الجيش الاسرائيلي من تحقيق ما يصبو اليه.

وفيما تعلو صرخات اليمين المتطرّف لدى الاعلان عن وقف إنساني لإطلاق النار، تبدو الحكومة الاسرائيلية قلقة من ارتفاع أعداد قتلى الجيش الاسرائيلي، ما سيُهدّد لاحقاً بقلب التأييد الشعبي للحكومة والبالغ الآن زهاء 75 في المئة الى عكسه في مرحلة لاحقة، في وقت تضرَّرت فيه كثيراً صورة اسرائيل في المحافل الدولية.

ويرى المراقبون الديبلوماسيون أنّ الحرب الباردة الدائرة بين ايران والسعودية في الشرق الاوسط تبدو في ذروتها وكأنّ القطبين الإقليميّين يريدان دفع الامور الى تأزيم كامل لاستدراج تدخّل اميركي لا يبدو أنّه سيحصل. فحتى في حرب غزة كان واضحاً كلام الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله عن وجود اطراف عربية تحضّ نتنياهو على توسيع آفاق الحرب البرية.

الباحث في مؤسّسة «بروكينز» الاميركية غريغوري غوس وهو المتخصّص في قضايا الشرق الاوسط والذائع الصيت بعلاقاته المتشعبة بدوائر القرار الاميركية، بدا واثقاً من أنّ الإدارة الاميركية لن تُقدم على وساطة جدية أو تدخّل فاعل في حروب الشرق الاوسط كونها تعتبر أنّ مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة من العالم لا تزال غير مهدّدة.

ولذلك، فإنّ الرأي الغالب لدى دوائر القرار الاميركي هو بعدم القيام بأيّ تحرّك كامل وجدّي حتى الآن، والاكتفاء بتحرّكات تحمل الطابع العادي والانساني بالتعاون مع بعض العواصم الأوروبية الحليفة.

ونقل غوس وجود اعتقاد واسع في الدوائر الاميركية بأنّ طرفي الحرب الباردة إنما يريدان تأزيم الأمور أكثر في اطار لعبة عض الاصابع الجارية من جهة، ولاستجلاب تدخّل اميركي يسمح وفق اعتقاد كلّ فريق بتكريس نقاط سياسية اضافية له من جهة اخرى، طبعاً وفق الحسابات السياسية الخاصة بكلّ طرف.

في المقابل، لا تمانع واشنطن فكرةَ ترك الامور تأخذ مداها أولاً طالما أنّ لا خطر مباشراً على مصالحها الحيوية، وثانياً لاستنفاد الطرفين كلّ قوتهما والاقتناع في نهاية المطاف بأنّ لا حلولَ سحرية او عسكرية، وأنّ الحل الوحيد هو من خلال التفاوض السياسي وإنجاز التسوية وفق نظرية واقعية.

لكنّ الاهم هو الرؤية السياسية التي باتت واشنطن مقتنعة بها تجاه الشرق الاوسط. فمنذ وصول جورج دبليو بوش الى البيت الابيض وتحديداً منذ دخول قوات المارينز الى بغداد عام 2003، دشَّنت واشنطن مرحلة سياسية جديدة تقوم على أساس الشرق الاوسط الجديد القائم على التدخل الاميركي المباشر في المنطقة خصوصاً بعد زوال الاتحاد السوفياتي والدخول في عصر أحادية القوة العالمية.

لكن، وبعد الخسائر المتتالية التي مُنيت بها واشنطن في الشرق الاوسط ووصول فريق باراك اوباما مصحوباً بنظرية «القوة الناعمة»، بدأت الإدارة الاميركية خطة الانسحاب العسكري من المنطقة والعودة الى سياسة ما قبل 2003، أي تأمين المصالح الاميركية من خلال التعاون مع القوى المحلية. ومع النتائج الكارثية لـ»الربيع العربي»، تبدو الادارة الاميركية مقتنعة بالتعاون مع الدول التي تتمتّع بحكومات مركزية قوية وإعادة نسج علاقات متينة مع الانظمة القوية وجيوش المنطقة.

وتبقى مصر خير مثال على ذلك ما يعني الاستعداد لفتح صفحة جديدة مع النظام السوري، ولو تطلّب الامر تنقيحها بعض الشيء مع الاشارة الى أنّ دمشق تتحضَّر لاستقبال مسؤول الاستخبارات الفرنسية السابق سكوارزيني في شهر ايلول المقبل في أوّل اتصال مباشر فرنسي - سوري منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011.