خلّفت الاعتداءات الإسرائيلية على غزه تداعيات لا تقتصر فقط على حدود جغرافية ولا على طبيعة الصراع مع إسرائيل. مشهد جديد أظهره حجم الرد الفلسطيني بقصف المستوطنات الإسرائيلية.

كانت تعتقد تل أبيب أن الحرب الجارية أو التوترات القائمة في كل بلد عربي ستساعدها على الإستفراد بحركة "حماس". الساحات مشغولة بالقتال في سوريا أو بالنزاع في العراق او بالأحداث الدموية في ليبيا او بالصراع في مصر، وبالقلق حُكماً في كل عاصمة عربية. ظنّ الإسرائيليون أن نقمة المصريين والسوريين مثلاً على "الإخوان المسلمين" كافية لسحب التعاطف الشعبي مع المقاومة الفلسطينية التي حصروها "بحماس". الإسرائيليون بنوا خططهم على أساس أن موقف "حماس" من الأحداث السورية والمصرية سيقلب الرأي العام العربي ضد هذه الحركة. كانت تبني تل أبيب جزءاً كبيراً من تكتيكاتها على حقيقة خلاف الحمساويين مع "حزب الله" والإيرانيين بشأن الملف السوري.

لكن ماذا حصل بعد العدوان على غزه؟

فاجأ الفلسطينيون إسرائيل بفعالية حركات مقاوِمة أخرى "كالجهاد الإسلامي" مثلاً التي إستطاعت أن تثبت نفسها مع فصائل أخرى. لم تعد "حماس" وحدها في غزة، لكن الأهم هو وحدة الموقف والسلاح بين كل الحركات في الرد على إسرائيل. بدا التنسيق واضحاً على الأرض وفرض تواصلاً بين رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل الموجود في الدوحة القطرية و أمين عام حركة " الجهاد الإسلامي" رمضان عبدالله شلّح الموجود في دمشق السورية.

صحيح انهما لم ينقطعا عن التواصل مع بعضهما، رغم إختلاف القراءة والتعامل مع الأزمة السورية. لكن توحيد الموقف السياسي والعسكري والتنسيق الشامل كأنهما حركة واحدة في غزة فاجأ الإسرائيليين. المسألة هنا أبعد، تتصل بالداعمين للحركتين. تُرجمت أكثر بموقف طهران وخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. بينهما كان تركيز الرئيس السوري بشار الأسد على "الإلتزام بالقضية الفلسطينية" مؤشراً أيضاً.

هنا سقط الإسرائيليون بتقدير خاطئ دفعوا ثمنه غالياً، معطوفاً على عدم إحتساب تل أبيب لقدرات المقاومة الفلسطينية جيداً في غزة. في العلوم العسكرية ثابتة: فشل الإستخبارات في جمع المعلومات يؤدي الى فشل العملية.

أبعد من ذلك يقول دبلوماسي غربي في لقاءاته أن الصراع برز بين محورين أطالا أمد الحرب. يعتبر الدبلوماسي أن خلفية ما يدور حول فشل وقف النار وإجهاض مشاريع التهدئة في غزة ليس بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هو صراع بين محور "الإخوان المسلمين" والسعوديين.

يستند هذا الدبلوماسي في قراءته الى نسف المبادرة المصرية من قبل "حماس". عندما طرحتها القاهرة لم تستشر الحمساويين. هي تقاطعُهم بناء على موقفهم من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وتعاطفِهم مع الرئيس المعزول محمد مرسي، ولعدم إغضاب الرياض من جهة ثانية. بل إن السعودية لم تتواصل مع قطر- حاضنة "الإخوان" حول إستيلاد المبادرة. لم تحسب القاهرة أيضا لراعية "الإخوان" تركيا أي حساب.

هنا لا تستطيع "حماس" الذهاب الى مفاوضات لا ترضى عنها كل من تركيا وقطر. بالنسبة الى "الإخوان" كيف يمكن للحمساويين الذهاب الى القاهرة للمفاوضات المقترحة تحت عباءة السيسي؟ هم يحاربونه جماهيرياً وإعلامياً بشكل مكثف لم تخفف منه وقائع الحرب على غزة. الشرط الأساسي يريدون فتح معبر رفح. إنسانياً رفعُ الحصار هو حق للفلسطينيين. في مصر كلام آخر وحسابات مختلفة: "حماس" خطر على النظام الجديد، ونخشى من تمدد وتنسيق مع إسلاميي مصر.

إذا صحت قراءة الدبلوماسي المذكور فإن ما جرى في غزة خلط الحسابات وخرائط التحالفات في المنطقة. فهل تعيد تلك التطورات "حماس" الى الحضن الإيراني؟

في طهران يستند الكلام الى أولوية القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل بغض النظر عن موقف مغاير حول العراق أو سوريا. تلك الأولوية كافية بالنسبة الى الإيرانيين لحسم مسار التحالفات والخصومات والعداوات.

الأهم ماذا عن " حماس"؟

من المفترض ان تكون الإعتداءات على غزة أظهرت من وقف فعلاً داعماً للشعب الفلسطيني ومن تفرج على قتله أو حرّض للقضاء عليه. قد يكون أهل غزة والمقاومون حسموا الموقف. ساهم بذلك موقع "الجهاد الإسلامي" الثابت دون أي تغيير أتت به الأحداث العربية. لكن ماذا حول "حماس" ؟

السؤال سيفرض نفسه بعد إنتهاء الحرب، خصوصاً أن "إسلاميي الثورات" لم يحركوا ساكناً مع غزة لا بالموقف ولا بالسلاح. كأن فلسطين لا تعنيهم، ولا دماء الغزاويين، ولا وجود في قاموسهم للقضية.

الصورة بانت أوضح بعد غزة التي غيرّت الحسابات والمعادلات. ماذا بعد غزة؟