ربما يقف العماد ميشال عون على شفير التفوّه بما لم يقله يومًا لسيّد بكركي حتى عندما كان في غير صفّه: “أنتَ لست في كاليفورنيا”. يومذاك رماها عون في وجه السفير الأميركي رداً على طرح “مخايل الضاهر أو الفوضى”، وها هم أبناء الرابية يستعيدون تلك المشهدية اليوم بعدما شعروا بأن بكركي “تحشرهم” في زاوية انتخاب رئيسٍ... أيّ رئيس.

لم يكن أحدٌ يتصوّر أن لقاء كسر الجليد الأوّل الذي احتضنه الصرح في حزيران الفائت سيكون بمثابةٍ لحظاتٍ مُحرجة سرعان ما ستعقّد الأمور بين العماد والكاردينال. هي جملة واحدة همس بها الراعي على ما علمت “صدى البلد”: “يا جنرال انزل الى المجلس ولنترك النواب يصوّتون فإذا جمعتَ 57 صوتاً أنا أؤمّن لك الباقي”. كلامٌ نطق به الراعي قبل أن يهمّ الى أداء صلاة العشاء ويدعو الحاضرين من المطارنة (بعد خلوتهم) ومفتي الشمال الشيخ مالك الشعار الى تناول الطعام. لم يرُق عون أن يقول الراعي ما قاله أمام الجميع ولا سيّما أمام الشعّار الذي صودف وجوده في بكركي بعدما حضرها من غير موعد. ومع ذلك بدا هاجس الجنرال الصريح أن يُسحَب ترشيح هنري حلو لضمان عدم مرور تسويةٍ من تحت الطاولة تُسقِطه في لعبةٍ “خبيثة”... وبعدما أفرغ رجل الرابية ما في جعبته من هواجس وفهم من الراعي كيف يمكنه أن يجمع له باقي الأصوات ليبلغ عتبة الثلثين، خرج غير راضٍ، ومذاك اليوم وسليمان فرنجية يسعى الى إصلاح ما خربته جملة عناصر لم تكن عبارة الراعي سوى آخر حبّات عنقودها.

لا لقاء قريب

حتى الساعة، وعلى ما علمت "البلد" لا لقاء سيجمع الراعي وعون في القريب المنظور إلا في حال بروز عنصر جديد في الملفّ الرئاسي، بيد أن هذا “الجديد” لا يبدو على طريق الاختمار أمام تمسّك الراعي بمطلب انتخاب الرئيس حتى على حساب أن يُفهَم خطأ في عظة أحدٍ عكست نيّته الصريحة في إقصاء كلٍّ من عون وجعجع، وأمام إصرار عون على إنهاء ملفّ قانون الانتخاب تمهيداً لانتخاب رئيس من خارج “خيارات بكركي” الضمنية التي لا تصبّ في خانة اختيار رئيس قوي ووازن.

فتورٌ من طرف واحد

يؤكد مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم لـ”صدى البلد” أن “أيّ حديثٍ عن فتور في العلاقة بين بكركي وعون ليس من جانب البطريرك الحريص على عدم قطع علاقته مع أي طرفٍ، لذا إذا كان هناك فتور فمن الطرف الآخر وهو فتورٌ سياسي وليس شخصياً ركوناً الى حقيقة شعور الراعي بأنه أبٌ للجميع”. ولكن الراعي قطع الطريق على ترشّح عون؟ يجيب أبو كسم: “ليس فعلاً، بل فُهم على نحوٍ غير صائب في عظة الأحد. الراعي لم يقل إنه لا يريد رئيسًا من 8 و14 آذار، بل أكد أن ليس لدى بكركي مرشّح معين وأنه لا يمكن ترك البلاد بلا رئيس في حال كان مستحيلاً الإتيان برئيس من 8 أو 14 آذار. هذا جلّ ما قصده البطريرك قبل أن ينفذ الى ضرورة الاتفاق على رئيس من خارج هذين المعسكرين متى تمّ التسليم بأنه لن يكون هناك رئيسٌ محسوبٌ على أيٍّ منهما”... وماذا لو وصلت الأمور حدّ القطيعة كما كانت عليه في عهد الكاردينال نصرالله بطرس صفير؟ يتلقف أبو كسم: “لا أعتقد أن من مصلحة التيار الوطني الحر ولا من مصلحة أحد مقاطعة بكركي خصوصًا أن القطيعة في هذا الظرف بالذات غير مفيدة في وقتٍ نحتاج الى تعزيز التواصل في ما بيننا، فكم بالحري إذا كانت الفرضيّة تتعلق بمقاطعة فريق مسيحي قوي لرأس الكنيسة المارونية”.

الرابية عاتبة...

يبدو أن كيل الرابية من “لطشات” بكركي طفح، ففي كلّ مرّة يُفهَم كلام الراعي “مشخصناً” ويعزز تفاجؤ القاعدة من بطريركٍ بدأت العلاقة معه “كالسمن على العسل” قبل أن تتراجع حرارتها يومًا بعد آخر. وهنا يتساءل أبو كسم: “هل العماد عون وحده من يعطّل؟ الراعي لا يقصده تحديداً، بل يتوجّه بشكل عام الى النواب لإيجاد مخارج لانتخاب رئيس كما هو منوطٌ بهم ركوناً الى دورهم التشريعي تحت قبة البرلمان”. ولكن الرابية أيضًا عاتبة على عدم انتفاضة الراعي على انقلاب القواتيين على مشروع اللقاء الأرثوذكسي قبل ساعاتٍ من إقراره؟ يجيب أبو كسم: “من قال إن الراعي لم ينتفض؟ ولكن ردّة الفعل على إسقاط قانون انتخاب تختلف عن ردّة الفعل أمام شغور الموقع المسيحي الأول في البلاد، إذ متى سقط القانون الجديد يُستعاض عنه بقانون الستين ولكن من هو الرئيس البديل عن الشغور؟”. وختم أبو كسم متمنياً على بعض نواب التيار والناطقين باسمه “التنبّه الى الألفاظ المستخدمة في سياق الحديث عن الراعي لتلافي الوقوع في إهانة شخصه أو موقعه الرفيع”.

الخرق غير وارد

من جهتها، ترفض الرابية المقارنة بين الكاردينالين، وتشدّد مصادرها على أن “دعم بكركي لنا قيمة مضافة ولكن متى لم يتوفر هذا الدعم فلا يُنقِص ذلك من قيمتنا السياسية”. يقرّ أبناء التيار بأن العلاقة مع البطريرك ليست على أتمّ ما يُرام، أما غصّتهم الكبرى فتتجسّد في ما يصفونه “بتناسي الراعي قانون الانتخاب الذي يُنصِف المسيحيين وعدم إيلائه اهتمامًا موازياً لذاك الذي يوليه للملف الرئاسي منذ إسقاط مشروع اللقاء الأرثوذكسي”. لا تطلب الرابية من الراعي أن يرتقي بالقانون الانتخابي أولويّة ويضع الرئاسة ثانياً، بل أن يضغط في اتجاههما بالتوازي والتوازن التاميْن. ورغم الجفاء يصرّ العونيون على أنه لن يحصل خرقٌ في الملف الرئاسي على حساب أن يأتي رئيس لملء الفراغ، خصوصًا بعد كلام النائب وليد جنبلاط عقب لقائه برّي وتحامله (حسب وصف التيار) على المرشّحين بتمسّكه بهنري حلو على أنه مرشّح مستقل توافقي”.

حرقة تراكمية

في شباط 2009 خرج عون عن صمتٍ كان يخنقه لسنواتٍ آثر عدم التفوّه به احترامًا لموقع الصرح. قالها عشيّة الانتخابات النيابية: صفير أصبح طرفاً وأسقط الوسطية. بدت وكأنها حرقة تراكمية مُذ كان الكاردينال يُحسَب “عفوياً” وفي سياقات الحديث على معراب في سجنها كما في حريّتها. لم تكد تمضي عشرة أشهر ليسجّل العماد والكاردينال لقاءً وصفه النائب ابراهيم كنعان على صفحته على “الفايسبوك” يومذاك بـ”الفرصة التاريخية لبحث مجمل القضايا”. اليوم يحمل المطران سمير مظلوم راية تقريب المسافات بين الصرح والرابية، ويُعوَّل على أن يجدي دور فرنجية نفعاً، ولكن الى حينها لن يكون هناك لقاءٌ يخرج فيه الطرفان بلا نتيجة ويكون “غير مجدٍ” كسابقه على ما وصفته مصادر مواكبة للقاء الأخير عبر “صدى البلد”. جلّ ما تخشاه القاعدة البرتقالية أن تخونها عيونها فتبدأ بالخلط بين صفير والراعي وهو ما لا يريده المؤيدون المتحمسون فعلاً بعدما ظنوا أنهم طووا صفحة تجاهلهم لبكركي وتجاهلها لهم الى غير رجعة.

حصى على الدرب

إذاً قبل أن يخرج عون بمبادرته “اليوتوبية” القائمة على تعديل دستوري لانتخاب الرئيس شعبياً وهو ما وصفه بعضهم “بالانقلاب” ولم تهضمه معدات الكثيرين ومن ضمنهم الراعي، بدا واضحًا أن الملفّ الرئاسي “خربَها” بين الرابية وبكركي وزرع في رأس البطريرك فكرةً ضبابية مفادها أن عون يعرقل لأنه يريد انتخاباتٍ رئاسية على قياسه، تمامًا كما زرع في رأس العماد فكرةً ضبابية مفادها أن الراعي يعرقل وصوله الى سدّة الرئاسة بأيّ ثمن. وما بين الفكرتين الفرضيّتين كلامٌ “عتبي” وتسريباتٌ “متهوّرة” تزرع الحصى على درب سُعاة الخير... سُعاة كسر الجليد وإنعاش فترات التناغم الضمنية التي لا يمكن أن يمحوها «بوم» الرئاسة أو يقودها الى الخراب.