في ظلّ المعارك والمواجهات المستمرّة في أكثر من بلد في ​الشرق الأوسط​، وفي ظلّ الإضطهاد والتمييز العرقي والطائفي والمذهبي أيضاً، بدأ يطفو على السطح ما يتمّ تناقله همساً وخلف الكواليس، عن أن لا سبيل لخلاص الأقليّات في المنطقة من هذا التعصّب الأعمى إلا عبر التحالف في ما بينها. فهل فعلاً "حلف الأقليات" هو الحلّ؟

بداية، بمجرّد الحديث عن تحالف بين أقليّات محدّدة، يعني حُكماً التكتّل ضد أكثريّة محدّدة أيضاً. وبالتالي الحديث عن تحالف بين الأقليات المسيحيّة والشيعيّة والعلويّة والدرزيّة في المنطقة، لن يكون مُوجّهاً إلا ضد أكثريّة سنّية، وهذا يعني الإنزلاق تلقائياً في إنقسام طائفي ومذهبي يُغذّي الصراع القائم ويُعمّقه، وليس العكس. وإعطاء هذا الإنقسام الطائفي والمذهبي أبعاداً سياسيّة لا يُسقط خلفيّاته الدينيّة، بل يجعل التداخل بين ما هو سياسي وما هو ديني متلاصقاً ومتداخلاً بشكل يضاعف المخاطر من مختلف النواحي. أكثر من ذلك، إنّ "تحالف الأقليّات" فشل خلال الأحداث الأخيرة في توفير الحماية لهذه الأقليّات نفسها، على إمتداد أكثر من منطقة وموقع، خاصة في سوريا والعراق. وتبيّن أنّ الكثير من الأنظمة الحاكمة عاجز عن توفير الحماية لنفسه، كما تبيّن بالوقائع الملموسة أنّ روسيا، الدولة المسيحيّة القويّة، تُعطي الأولويّة لمصالحها وليس لحماية الأقليّات المسيحيّة في الشرق، شأنها شأن الولايات المتحدة الأميركية. وإذا إفترضنا أنّ "حلف الأقليّات" نجح أو سينجح في توفير الحماية لبعض الجماعات في مكان جغرافي معيّن عبر فرض سيطرته الأمنيّة عليه، فإنّ هذا الأمر قد لا ينسحب على أمكنة جغرافية أخرى، لتصبح بالتالي الأقليّات هناك عرضة لمحاولات إنتقام وثأر. كما أنّ الحقيقة الديمغرافية الواضحة بأنّ أهل السنّة يُشكّلون ما بين 70 و75 % من العالمين العربي والإسلامي، تجعل أيّ صراع بخلفيّة مذهبيّة فاقداً للتوازن وآيلاً إلى الفشل ولو بعد حين. وهو بالتأكيد مشروع صراع وصدام ومواجهة مفتوحة لا أمل في أن يصبّ في صالح الأقليّات على المدى الطويل، نتيجة الخلل الديمغرافي الكبير.

وأمام هذا الواقع، وفي ظلّ الهجمة الشرسة التي تضرب جماعات متناحرة داخل الأكثريّة السنّية نفسها في العديد من الأماكن، والتي تطال الأقليّات المتعدّدة في أماكن أخرى، يصرّ كثيرون على أنّ لا خيار بديل غير خيار "تحالف الأقليّات" وخيار المواجهة، لأنّ الرضوخ للإنتهاكات وللإضطهاد غير وارد، ولأنّ الفرار والهجرة واللجوء إلى الخارج يعني الإستسلام للأمر الواقع. في المقابل، يُحذّر معارضو فكرة "تحالف الأقليّات" من الفشل الحتمي لسياسة المواجهة تحت ستار هذا التحالف، ويعتبرون أنّ البدائل موجودة. وأبرزها:

أوّلاً: رفض الإنسياق في تحالفات بخلفيّات مذهبيّة وطائفية وعرقيّة، ورفض الإنجرار إلى تحالفات سياسيّة - أمنيّة من حيث الشكل ومذهبيّة-عقائديّة من حيث المضمون، أيّا تكن التبريرات، وضرورة التنسيق مع باقي الأقليّات من منطلق الحفاظ على خصوصيّة كل منها، من دون التورّط في مشاريع مواجهة لأيّ منها. ومن الضروري أيضاً إعتماد الحياد الفعلي في مناطق المواجهات والأحداث، إذا كان الصراع بخلفيّة طائفية أو مذهبية أو عرقيّة، لكن مع تطبيق مبدأ الإنحياز الكامل إلى طرف على حساب الطرف الآخر، إذا كان الصراع هو على مبادئ وحقوق عامة تجمع الجميع تحت سقفها، مثل الحريّة والديمقراطية، إلى آخره.

ثانياً: العمل على تقوية العلاقات مع التيّارات الإسلامية السنّية المعتدلة، والعمل معها على مواجهة التيّارات المتشدّدة التي تُشكّل خطراً كبيراً على ديمومة القوى السنّية المعتدلة، قبل أن تكون خطراً على الأقليّات من أديان ومذاهب أخرى. ومن خلال إتفاقات مع هذه القوى الإسلامية المعتدلة يُمكن توفير حدّ أدنى من الغطاء السياسي والمعنوي وربما الأمني، من دون إهمال مسألة حمل السلاح لتوفير حمايات ذاتية، شرط التصرّف من منطلق الدفاع عن مناطق الوجود والإنتشار فقط، ضد الهجمات الإرهابية على غرار تلك التي ينفّذها مسلّحو "الدولة الإسلامية" في أكثر من مكان مثلاً.

ثالثاً: ضرورة العمل على تقوية مُقوّمات وأسس الحماية، عبر توفير "شبكة أمان متكاملة" تتضمّن علاقات سياسية داخلية متينة، وعلاقات دولية ودبلوماسية واسعة، وحتى عبر قدرات أمنيّة ذاتية فعّالة، إنطلاقاً من مبدأ الحياد السويسري الذي يستند بالدرجة الأولى إلى قوى عسكريّة بقدرات مهمّة، قبل أن يُعوّل على علاقاته الخالية من المشاكل مع الأطراف العالمية كلّها.

في الختام، الوضع مأساوي، ومصير الكثير من الأقليّات في الشرق الأوسط على المحكّ، وقد دفعت الأقليّة المسيحيّة الثمن الأكبر من الظلم والإضطهاد كونها الحلقة الأضعف مُقارنة بباقي الأقليّات، ونتيجة غياب أيّ خطّة عمل واضحة ومُشتركة، وبفعل وجود إنقسام كبير في الرأي بين داع إلى الإنخراط بحلف الأقليّات لكن بشكل سرّي شبه متردّد من جهة، ومعارض لهذا الأمر لكن من دون تقديم بدائل ميدانية ملموسة حتى الساعة من جهة أخرى!