لا يستسيغ بري وجنبلاط انتخابَ مجلسِ نواب جديد او تمديدَ ولايةِ مجلس النواب مجدّداً في ظلّ الشغور الرئاسي، لأنّ إنجازَ هذا الاستحقاق النيابي، على اهميته انتخاباً او تمديداً، سيولد مشكلاتٍ إضافية تدفع البلادَ أكثر في اتجاه مزيدٍ من الفراغ في مؤسساتها الدستورية، فالأفضلُ أن تكون الأولوية انتخاب رئيس جمهورية جديد لضمان عدم حصول فراغٍ حكومي في حال أُجريت الانتخاباتُ في غيابِ رئيس الجمهورية.

فهذه الانتخابات ستجعل حكومةَ الرئيس تمام سلام مستقيلةً حسب احكام الدستور وتحوّلها حكومةَ تصريف أعمال، ما يفرض تأليفَ حكومةٍ جديدة بعد انتخاب المجلس الجديد.

ولكن، في ظلّ الشغور الرئاسي لن تكون هناك إمكانيةٌ لتأليف مثل هذه الحكومة لأنّ رئيس الجمهورية هو الذي يجري الاستشارات النيابية الملزِمة التي يكلف في ضوءِ نتائجها الشخصية التي نالت تأييد الاكثرية النيابية تأليفَ الحكومة الجديدة، ومجلس الوزراء الذي يتولّى حالياً صلاحيات رئاسة الجمهورية وكالةً لا يمكنه الحلول مكانَ رئيس الجمهورية في هذه المهمة في الظروف العادية، فكيف يمكنه ممارسة هذه الصلاحية في ظلّ الاستقالة الدستورية للحكومة فورَ انتخابِ مجلس النواب الجديد.

ولذلك يكتسب تحرّك بري - جنبلاط الرئاسي أهمية كبيرة كونه يتحسّس المخاطر التي يمكن أن تتأتّى من دخول البلاد في فراغٍ شامل على مستوى مؤسساتها الدستورية، وهذا التحرّك ينطلق من مسلمة أن يتمّ اختيار رئيس جمهورية جديد من خارج الاصطفاف السياسي لفريقَي 8 و14 آذار، وهذا يتطلب بدايةً سحب ترشيحَي رئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع اللذين عطلا، أو على الاقل، حالا دون إنجاز الاستحقاق الرئاسي ضمن المهلة الدستورية وحتى الآن، علماً أنّ القاصي والداني يعرف أنّ لا حظوظ لأيٍّ منهما في الوصول الى سدّة رئاسة الجمهورية لاعتباراتٍ وأسباب كثيرة.

واذ كان جعجع قد اعلن قبل اسابيع أنه مستعدٌ لسحب ترشيحه في حال توافق فريق 14 آذار الذي ينتمي اليه على مرشح آخر من صفوفه، فإنّ عون الذي خاض غمارَ مفاوضاتٍ طويلة مع الرئيس سعد الحريري محاولاً تسويق ترشيحه وخرج منها خاليَ الوفاض لم ينسحب من ساحة الاستحقاق مقتنعاً بأنّ لا حظوظ له، بل إنه ما زال يواظب على عدم حضور الجلسات النيابية التي يدعو بري إليها لانتخاب رئيسِ جمهورية اعتقاداً منه أنّ عامل الوقت قد يصبّ في مصلحة ترشيحه لاحقاً.

غير أنّ كلّ الدلائل تشير الى عكس ذلك، وأنّ الرهان على انتهاء الازمات الاقليمية قريباً ليس موفّقاً لأنّ كلّ المؤشرات تدلّ الى أنّ هذه الأزمات لن تتوافر لها حلولٌ قبل 5 سنوات، على حدّ ما يتوقع بري الذي يؤكد أنّ من الضروري جداً للبنان انتخاب رئيسٍ له وتفعيل عمل مؤسساته الدستورية وتحصين أوضاعه السياسية والامنية بما يجنّبه ما يمكن أن يكون للأحداث الدائرة في المنطقة من مضاعفاتٍ طوال السنوات الخمس المقبلة.

وثمّة مَن يقول إنّ البعض بدأ يفاتح عون في أمر سحب ترشيحه على قاعدة أنه جرّب حظه في تأمين التوافق عليه ولكنه لم يُوفَّق، وأنه بات لزاماً عليه أن يتعاون مع الآخرين للاتفاق على الرئيس العتيد، أو أن يدخل مع حلفائه وغيرهم في مفاوضات على شكلِ العهد المقبل وحصتِه فيه والخروجِ من مرحلة التشدّد بمقاطعة الجلسات الانتخابية النيابية مرحلياً لفرض خدمة ترشيحه، ولكن لا يجوز أن تصبح هذه المقاطعة استراتيجيةً بما يطيل أمدَ الشغور في سدّة رئاسة الجمهورية الى فترةٍ طويلة وبلا طائل.

وبعضُ السياسيين المتابعين لتحرّك جنبلاط يؤكدونأنّ الرجل مقتنعٌ بأنّ لا تقدمَ يمكن حصوله في اتجاه انجاز الاستحقاق الرئاسي الاّ عبر حصول حوارٍ شيعي - سنّي، ولذلك كانت مبادرته التي نجحت في إقناع حركة «أمل» وتيار «المستقبل» في الجلوس الى طاولةِ حوار وتفاوض بينهما بدأ من زاوية سلسلة الرتب والرواتب للعاملين في القطاع العام والتي يتخّذ «المستقبل» منها موقفاً كان ولا يزال من أبرز المواقف التي تؤخّر الإتفاق عليها.

ويرى هؤلاء السياسيون أنّ هذا الحوار السنّي - الشيعي بات يشكل في نظر جنبلاط «المِعبَرَ الاساسي» الى انجاز الاستحقاقات الداخلية.

وكشفوا بعضاً مما دار في اللقاء الأخير بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وجنبلاط، وأنّ البحث بينهما عندما وصل الى موضوع رئاسة الجمهورية أبلغ الاول الى الثاني أنّ أيّ تطوّر في موقف حزب الله من الاستحقاق الرئاسي يتطلّب بروزَ تطوّر ما في موقف عون، بمعنى أنّ الحزب لا يمكن ان يغيّر في موقفه المؤيّد ترشيح عون ما لم يغيّر الأخير موقفه ويعلن أنه ينسحب من ساحة الترشيح.

وفهم جنبلاط من السيد نصرالله أنّ الحزب لا يمكنه تغيير موقفه «الرئاسي»، وأنّ على الآخرين جسّ نبض عون وإقناعه بتغيير موقفه وعندها لن يكون موقفُ الحزب عقبةً في وجه الاستحقاق الرئاسي.

بَيد أنّ أحدَ السياسيين البارزين الذين تسنّى لهم الاطلاع على أجواء لقاء نصرالله ـ جنبلاط، قال إنّ ما رشَحَ منه يفيد أنّ جنبلاط لم يشعر أنّ حزب الله مستعجلٌ حصول انتخاب رئيس جمهورية قريباً، ولكن اذا كانت هناك امكانيةٌ لحصول اتفاق على شخصية الرئيس العتيد بين الأفرقاء السياسيين على اختلاف مشاربهم فإنّ الحزب لن يتردّد في دخول عمليةٍ من هذا النوع.