جلّ ما قاله “تيار المستقبل” هو ما تحبّ بكركي أن تسمعه في هذه الأيام الرئاسيّة العصيبة، ولكن ما يسمعه الصرح ليس تمامًا ما تشهده الكواليس السياسيّة من تسليم ضمنيٍّ بأن البلاد مع رئيسٍ ومن دونه “ماشية”.

لم تُهجَض خارطة الطريق المتكاملة بالنسبة الى “المستقبل” والتي ألمح اليها رئيسه سعد الحريري في الإفطار الشهير. وإذا كان أبناء قريطم يعملون على جبهة “الرئاسة أولاً” رغم يقينهم بأنها لم تعد “أولاً”، فإن زيارة من قبيل تلك التي سجلها الرئيس فؤاد السنيورة على رأس وفدٍ الى الصرح خطوة بروتوكولية لا مفرّ منها خصوصًا أنها تضرب على وترين: تبيع البطريرك مار بشارة بطرس الراعي موقفاً كلامياً مفاده رفض التيار لتقديم أي أولوية على انتخاب الرئيس، وتريح المستقبليين أكثر على مستوى تأكيدهم غير المباشر رمي الكرة الرئاسية في ملعب المسيحيين ومعها في النتيجة كرة التعطيل والشغور.

مجاهرة غير “مهضومة”

“الزيارة عادية ولم تأتِ بجديدٍ على مستوى الملف الرئاسي، فالراعي على تمسّكه بانتخاب الرئيس اليوم قبل الغد و”المستقبل” على مجاهرته بأولوية الرئاسة لا الانتخابات البرلمانية”... تلك المجاهرة لا تهضمها معدات الكثيرين من حلفاء تيار المستقبل قبل خصومه واضعين إياها في خانة التهرّب من الانتخابات النيابية بإيثار انتخاب رئيسٍ قبل فرز برلمان جديد، لا خوفاً من المعادلات الاكثرية الجديدة بل لأن صورة التحالفات والقانون لم تتّضح بعد بالنسبة اليه وهو ما يجعله في لبنان شبه مشوّش في انتظار الكلمة الحسم من باريس أو السعودية حيثما يكون الرئيس الحريري عندما تحزّ الحزيّة ويحلّ الخامس عشر من آب بلا رئيسٍ جديد.

علاقة متراجعة

ليس الخلاف على الأولويات سوى جزءٍ من العوامل التي حالت دون نضوج تسوية تبنّي الحريري لترشّح عون مضافاً اليه دور وليد جنبلاط “المعرقل” (حسب وجهة نظر الرابية) والعناصر الإقليمية في إطار التسوية الكبرى والتي لم تنضج حدّ تزكية العماد. خلاف الأولويات هو ما يطفو على سطح العلاقة المتراجعة غير المتهاوية بين الطرفين: فالرابية تريد صراحةً قانون انتخاب عادلاً ومنصفاً في حقّ المسيحيين يكون كفيلاً بفرز برلمان جديد يفرز بدوره رئيسًا متفقاً عليه متى تمّ التسليم بأن طرح الركون الى الشعب بتعديل دستوري ليس سوى طرحٍ جنوني يهدف الى جسّ النبض لا أكثر. أما تيار المستقبل على جبهته فيدرس خياراته بدقّة وتروٍّ وهو ما يجعله غير واثقٍ من إمكانية نجاح تحالفٍ مع عدوّ الأمس حتى ولو سقط الإبراء المستحيل ولو جمعتهما حكومة مصلحة وطنية.

رسائل من نادر...

بالنسبة الى “المستقبل” الأمور واضحة وما قاله السنيورة عقب اللقاء يشرح ماهية الزيارة وأبعادها: “نحن مع أولوية انتخاب الرئيس إيماناً منا بأن الشغور يعقّد الأمور وبأن أي سلطةٍ لا يمكنها أن تحلّ محلّ الموقع الأول وطرح بكركي محقٌّ في هذا المجال ليس من منطلق مسيحي بل من منطلق وطني” تقول مصادر “المستقبل”. أما الصرح فيجيد تمامًا التمييز بين نهجين مستقبليَّيْن: نهج “مواقفي” لا بدّ منه يقوده السنيورة وبعض النواب المرافقين ونهج الرئيس الحريري الذي غالباً ما يتجاوز أبناء التيار في لبنان في تواصله مع بكركي على ما علمت “​صدى البلد​”، بحيث يؤثر الرجل إرساء تواصل شبه مباشر مع البطريرك من خلال أقرب المقربين اليه، نادر الحريري، الذي واظب في الفترات الأخيرة على نقل رسائل شفويّة للراعي من الحريري.

لمَ إرضاء بكركي؟

ولكن لمَ يحاول المستقبليون إرضاء الصرح؟ أولاً، علم تيار “المستقبل” شأنه شأن الجميع أن يد بكركي في الاستحقاق الرئاسي طولى وأنه لا يمكنه تجاوزها بأيّ شكلٍ بعدما فرضت نفسها شريكة في صنع الرئيس المستقبلي. ثانياً، تجيد قريطم اللجوء الى بكركي في المفاصل الحسّاسة فكم بالحريّ إذا كان الموضوع يتعلق هذه المرة باستحقاقٍ ظُهِّر - شاء من شاء وأبى من أبى- على انه استحقاق المسيحيين أولاً. ثالثاً، يقرأ المستقبليون جيداً حراك وليد جنبلاط الأخير على خطّي الرئاسة والتمديد وهو ما دفعهم الى تلقّف الموقف كي لا يُرموا في صفوف المعرقلين الذين تنقم عليهم بكركي، وبالتالي يحاول أبناء التيار الأزرق جرّ بكركي الى الخروج بموقفٍ واضحٍ من موضوع التمديد لدراسة هذا الخيار جيداً والركون الى موقف الصرح منه قبل تبني أيّ خطوةٍ عملانية.

برّي بدّل أولوياته

لا يبدو أن الرئيس نبيه برّي هو الآخر سيغرّد خارج سرب المنادين بانتخاب رئيسٍ للجمهورية قبل انتخاب مجلس جديد أو قبل التمديد وهو الذي كانت دعواته الى البرلمان للتشريع، سواء في السلسلة أو في صرف الرواتب، تُفهَم على أنها محاولة “وضع قدم في المجلس والمضي في إقرار القوانين للإلماح الى أن الأمور تسير من دون رئيس ولتبرير تسويف حلفائه ورفضهم النزول الى جلسات انتخاب الرئيس. ولكن ماذا حصل في الأمس؟ علمت “صدى البلد” أن “برّي ألمح الى أولوية الرئاسة على الانتخابات البرلمانية أمام زوارٍ مقرّبين من الصرح، وأكد لهم فيما كانوا يسيرون معاً في حديقة مقر إقامته انه يريد تقديم الانتخابات الرئاسيّة على الانتخابات النيابية”. ومن دون أن يقولها بري حرفياً فُهِم أن هذا الموقف إنما هو، وفي جزءٍ كبير منه، وليد التقاعس والتراجع عن الاتفاق على سلسلة الرتب والرواتب كما اشتهتها سفن برّي، ولكن بعض النواب عرقلوا السلسلة كي لا يذهبوا الى المجلس، وهو ما أثار سخط رجل عين التينة وجعله ينادي بانتخاب الرئيس أولاً”.

حرقة الأمس

في الأمس لم يُسلِّم رئيس البلاد الضباط الخريجين سيوفهم في عيد الجيش رغم أن بكركي كانت تريد رؤية هذه المشهدية التي لم تغِب عن ناظريْها منذ تسلّم الراعي سدّة البطريركية. يعلم الأخير أن لا حول ولا قوّة، وأن كلّ ما يُهمَس في أذنه من أي طرفٍ قد يتبدّل ما إن تطأ أقدام الواعدين عتبة الصرح خروجاً، أو قد يبقى في أحسن الأحوال كلامًا في الهواء الذي يصفر في قصر بعبدا الشاغر.