- كانت في الماضي مناسبة عيد الجيش في لبنان وسورية مجرّد موعد مع بروتوكول احتفالي يفتقد المضمون السياسي، وكان الجميع يشارك في المناسبة لإلقاء تحية التقدير للجيشين قيادة وضباطاً وجنوداً، لكن الحقيقة العميقة في الوجدان العام للسياسيين ونخب الرأي العام في البلدين كانت تنظر إلى الجيشين كإضافة غير ضرورية في بنية الدولة تزيد كلفتها عن الخدمات المنتظرة منها، وهي عاجزة عن تحرير الأرض بحرب نظامية مع العدو، وتتمادى بتدخلها في الحياة العامة بصورة شرعية وغير شرعية، بما كان يوصف بالنظام الأمني الذي كثيراً ما سمعنا أنه آن أوان التخلص منه للحاق بركاب الدول المدنية، التي تطابق النموذج الذي يدعو إليه الغرب وليس النموذج الذي يتبع لبلاده، حيث تحظى الجيوش وأجهزة الأمن بدور محوري محترم في رسم الاستراتيجيات والسياسات.

- لم ننتبه إلا متأخرين أنّ الجيشين على رغم عدم وجود ظروف تسمح بتسليحهما بمستوى يسمح بقيامهما بعمل عسكري يستعيد الأراضي المحتلة من «إسرائيل»، مع تفاوت القياس لكلّ من حالة لبنان وسورية، فإنّ هذين الجيشين بقيا وحدهما آخر سدّ في وجه الأطماع الإسرائيلية في المنطقة، ولولاهما لما كانت المقاومة القادرة على الردع، ولولاهما لما حميت وسلحت واحتضنت وامتلكت التغطية الشرعية الضرورية لحركتها، حتى جاءت حرب تموز 2006 وأظهرت حجم استطاعة المقاومة بعلاقتها المميّزة بكلّ من الجيشين اللبناني والسوري، كلّ في مجال وبمدى ونوع علاقة.

- الأهمّ هو الذي جاء عندما عصف الربيع العربي الخماسيني بالبلاد العربية، وتبلورت معالم ما ومن يقف وراءه والطابع التفتيتي الذي خلّفته العاصفة الهوجاء التي حملها، من تونس إلى ليبيا واليمن والمخاطر التي تعرّضت لها كلّ من مصر وسورية ولا تزالان، ثم تمادت تداعيات هذه الفوضى الربيعية لتكشف مخاطر التطرف والفتن الأهلية ونهوض العصبيات الطائفية والمذهبية والعرقية، بحيث بات مشروع الدولة المدنية الوحيد الوارد واقعياً، هو الحفاظ على دولة قانون في حدود الكيان الوطني التقليدي للدولة، وهو المشروع الذي تحمله الجيوش كمعبّر عن القوة الوحيدة العابرة للطوائف والأعراق والعصبيات، بعدما سقطت هذه الصفة عن الكثير من مؤسسات يُفترض أنها حاملة مشروع الدولة الوطنية، من الجامعات إلى الإعلام إلى الأحزاب والنقابات، التي غزتها واحتلت بناها كلّ أنواع الأمراض المنتمية إلى القرون الوسطى.

- مع الغزوة المعلنة والاجتياحية لقوى التطرف والإرهاب التكفيري، باتت الوحدة الوطنية في خطر حقيقي وباتت الحرب الأهلية وصفة جاهزة، والتهجير القسري من ورائها والإجرام الجماعي في حروب إبادة، وصارت المواجهة العسكرية للإرهاب ممكنة، شرط توافر الجيوش المؤهّلة والقادرة على خوض هذا النوع من الحروب، وبدا أنّ وحدة الأوطان وسلمها الأهلي يرتبطان عضوياً بمدى التفاف الشرائح الشعبية والنخب السياسية والثقافية حول جيوشها، وها هو نموذج ليبيا والعراق حيث جرى التفكيك المنهجي للجيوش بقرار أميركي أطلسي، يقول ما يكفي عما يحدث في مثل هذه الحالة، حيث يذهب المجتمع بأقدام ثابتة نحو الموت، بينما يقول النموذجان السوري واللبناني العكس تماماً، ويقول النموذج المصري شيئاً شبيهاً بلبنان وسورية، مع فارق جوهري وهو أنّ الجيوش التي تعمّدت بخيار الحرب مع «إسرائيل» تملك عقيدة قتالية وشعوراً بالفخر، يسمحان لها بامتلاك الروح المعنوية والقتالية بصورة تختلف عن جيش تكبّله اتفاقيات ومعاهدات وحسابات وعلاقات كالتي تقيّد الجيش المصري، الذي على رغم كلّ شيء ثبت أنه صمام أمان مصر في اللحظة الصعبة والمصيرية قبل الضياع، بينما اليمن يترنّح بين الخطر وفرصة النهوض، لأنّ جيشه ترنّح بين هويته الوطنية والتفاعل مع الأمراض والعصبيات.

- في عيد الجيشين اللبناني والسوري، أهمّ ما تبقى من المشترك من مناسبات مشتركة تجمع البلدين بعنوان مشرّف يضمّ أهمّ مؤسستين، لا بدّ من الدعوة الجريئة والشجاعة للوقوف خلف الجيشين بلا تحفظ، واعتبار الموقف من الجيشين ومهابتهما بوصلة لصدقية الموقف من الوطن ومن وحدته وسلمه الأهلي.