قفز تعبير الجغرافيا السياسية إلى مقدّم المصطلحات السياسية التي يستخدمها المتعاملون مع حقائق الأوضاع الراهنة على الصعيد العالمي وتطوراتها. ويفسّر البعض تعبير Geo politics، الغربي أصلاً، على أنه علم السياسة الطبيعية، وذلك صحيح لكنه ليس كل شيء. وقد فسّر عدد كبير من القادة ووزراء الخارجية والمحللين السياسيين الكثير من الحوادث السياسية التي شهدها ويشهدها عالمنا بكونها تعكس تأثير العوامل الجغرافية والاقتصادية والبشرية في سياسة الدولة الخارجية خاصةً. وإذا أردنا تحليل السياسة الخارجية لقوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأميركية أو دول الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط أو في شرق آسيا وباقي أنحاء العالم، فإنّنا نحتاج حتماً إلى فهم دقيق للجغرافيا السياسة التي قد تفرض توجهات معينة على السياسيين في إطار مصالح بلدانهم، سواء كانتْ هذه المصالح مشروعة أو غير مشروعة.

إنّ المتابع بشكل خاص لتاريخ السياسة الخارجية الأميركية، لا بد من أن يتعرّف إلى تيارين كانا يتحكمان في هذه السياسة منذ نشأة الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر. فالتيار الأوّل كان يدعو إلى انغلاق الولايات المتحدة على ما يحدث في العالم والانتباه إلى البيت الداخلي وتدعيمه وعدم زجّ الولايات المتحدة في ما يدور خارجها. وساد هذا التيار مرحلة ما قبل انخراط الولايات المتحدة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، رغم النداءات بل والصراخ الذي أطلقته بعض الدول الغربية لقيادة الولايات المتحدة آنذاك للزجّ بقواتها ضدّ ألمانيا الفاشية والتردد الكبير للولايات المتحدة في دخول غِمار الحرب انطلاقاً من خلفية جغرافية وسياسية وقيم دينية وفلسفية. وفي نهاية المطاف اتُخِذَ القرار الأميركي بالانضمام إلى الحرب قبيل نهايتها وقيام الولايات المتحدة بضرب هيروشيما وناغازاكي بالقنابل النووية وإنزال الجنود الأميركيين على شواطئ النورماندي لحسم مصير الحرب العالمية الثانية.

يحيي العالم بعد أسابيع قليلة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى التي بدأتْ بإعلان الإمبراطورية النمساوية الهنغارية الحرب على صربيا بتاريخ 28 تموز 1914، لأسباب جغرافية سياسية انطلاقاً من البوسنة وبالذرائع المعروفة لتؤثّر في صورة العالم التي كانت قائمة خلال الربع الأوّل من القرن الماضي. ورغم إقامة عصبة الأمم إثر انتهاء هذه الحرب عام 1919، لإنشاء نظام عالمي يهدف إلى صون الأمن والسلم الدوليين وإرساء التعاون بين الدول لمنع اندلاع حروب جديدة مدمّرة، إلاَّ أنّ صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا في نهاية العشرينات والثلاثينات من القرن نفسه وفشل عصبة الأمم في أداء دورها لأسباب بنيويّة وسياسية كانتْ العوامل الأساسية لاندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 والتي حصدت مثل سابقتها ملايين كثيرة من أرواح البشر أطفالاً ونساءً وشيوخاً، ومن جميع أجناس البشر والقارّاتْ، خاصّةً في القارّة الأوروبية.

عرّفتْ كتب العلوم السياسية مفهوم الجغرافيا السياسية Geo – politics بأنّه: «علم يحاول تفسير السياسة الداخلية والخارجية التي تنتهجها كل دولة بالاستناد إلى أوضاعها الجغرافية بمختلف مظاهرها الطبيعية والعرقية والسكانية والاقتصادية، والتي تكسب الدول النشاط والحيوية والتقدّم، وتؤدّي بغيرها إلى الضعف والخمول والتخلّف».

يُشير هذا التعبير أيضاً إلى: «العقيدة التي تؤمن بحتمية تأثير هذه العناصر على تطور الدول السياسي والعرقي. وكان يعتنق هذه النظرة الحزب الوطني الاشتراكي في ألمانيا النازية. وكانت العبارة قائمة على التمييز بين الأمم الديناميكية أي سريعة التوسّع في عدد السكان والتي تحتاج إلى المزيد من المجال الحيوي مثل ألمانيا ، والأمم الساكنة، أي التي بلغتْ الحد الأقصى من الازدياد والاتساع مثل فرنسا وبريطانيا اللتين أخذتا بحسب هذه النظرية الاتجاه نحو الانحلال».

من الطبيعي، على ما نعتقد، ألاّ يعود المتابع الحالي لمفهوم الجغرافيا السياسية بنا إلى بدايات هذا المفهوم أو كيفية استخدام الفاشيين والنازيين له، خاصّةً أنّه يستخدم اليوم من قِبَل الكثير من المعادين للفاشية والنازية لوصف بعض التطورات التي يشهدها عالمنا. كما أنّ بعض من يستخدم هذا التعبير ما زال يضع في ذهنه كيف قادتْ المصالح الجغرافية والسياسية لبعض القوى إلى الكوارث التي حلّتْ بالعالم نتيجة تطبيقات الجغرافيا السياسية على نحو أعمى لفرض أهداف الفاشية والنازية، بغض النظر عن التكلفة الإنسانية للتطبيقات الوحشية لهذا المفهوم. في أيّ حال، لا يمكن أحياناً فصل البعد التاريخي للمفاهيم عن معاني استخداماتها الحالية، خاصّةً عندما يصرّ البعض على انتهاك القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة لأغراض جغرافية سياسية ضيقة، وبطريقة مكيافيللية عمياء لهذه المفاهيم السياسية. عندئذٍ يصبح ما كان مفهوماُ إيجابياً ببعده التاريخي وصمة عار في معناه الحالي، ويصبح المفهوم المرتبط بممارسات سلبية في مرحلة تاريخية ما مفهوماً مقبولاً إذا تمّ تطبيقه لخير الإنسانية. لن نخوض في جدال حول هذه الأبعاد الفلسفية، ونترك لعلماء مفاهيم اللغة وتاريخ اللغة تفسير هذه المقولات كلّها.

لدى اندلاع الأزمة الأوكرانية الأخيرة، أوضحتْ جميع الأطراف مواقفها، وقال مسؤولون سياسيون إنّها عودة من قِبَل الدول الغربية إلى الفهم الضيّق لمفهوم الجغرافيا السياسية، وعندما تحدّث البعض عمّا حلّ في الوطن العربي «الشرق الأوسط» من دمار طوال السنوات الأربع الماضية، قال هؤلاء إنّ ما يحدث يتم أيضاً بفعل العامل الجغرافي السياسي.

يتفق كثر معنا حول أسباب ما حدث من خلل عميق في النظام الدولي الجغرافي السياسي منذ رحيل المعسكر الاشتراكي. ويركّز الجميع في هذا المجال على الدور الذي قامتْ به الولايات المتحدة وأوروبا الغربية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لإضعاف دول المعسكر الاشتراكي. لكنّ ما لا يعرفه كثر هو ذاك القرار الذي اتخذه الغرب من خلال أجهزته الأمنية والسياسية لإحداث التغيير نفسه في المنطقة العربية. وكم قرأنا لقادة دول ووزراء الخارجية عن التغيير الذي استطاع الغرب إحداثه في أوروبا الشرقية وفي أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، إلاَّ أنّه بقي عاجزاً عن إحداثه في الشرق الأوسط. وسيكشف التاريخ عندما يفتح الأدراج المغلقة للمسؤولين الغربيين وصفحات الأرشيف الكثير من الخطط التي وضعها الغرب لإحداث التغيير المطلوب في الدول العربية. ويعرف الجميع أنّ هدف التغيير المطلوب من قِبَل الدول الغربية في المنطقة العربية يعود إلى جانبين، أولهما تقديم مزيد من الحماية لـ«إسرائيل» وضمان أمنها وهيمنتها على الشرق الأوسط بالبعد الجغرافي السياسي، ناهيك عن ضمان استمرار تدفّق النفط إلى الأسواق الأوروبية.

السؤال الذي بقي مطروحاً هو: لماذا لم ينجح الغربيون في إحداث التغيير الذي أرادوه في الدول العربية بعد كل ما حدث في أوروبا الشرقية ومناطق أخرى من العالم؟ وكان هؤلاء يطرحون هذا السؤال كلّما عجزوا عن الإجابة عن سؤال آخر مهمّ: لماذا لا يقبل العرب بـ«إسرائيل» التي يحميها الغرب ويدعم احتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية الأخرى؟ ولأنّهم كانوا من جهة أخرى يريدون فرض نمط حكمهم وعملائهم على سائر أنحاء العالم، وإحلال أنظمتهم وأدواتهم بل وهيمنتهم على جميع مقدرات هذه المنطقة الغنية بإمكاناتها، فلماذا لا تخضع منطقتنا لهيمنتهم؟ هل ستفهم أدوات الغرب في المنطقة العربية ماذا يخطط لها هذا الغرب الذي تنفّذ مخططاته ضد سورية؟ أمّا ما كان الغربيون يدعونه من أهمية التغيير كي تنعم المنطقة بحقوق الإنسان والديمقراطية فالكلّ يُدرك، وهم يعرفون جيداً أنّ ذلك لم يكن هدفاً بل كان يستخدم دوماً لابتزاز الحكومات العربية، وإلاَّ ماذا يعني دعم الدول الغربية لعضوية السعودية في مجلس حقوق الإنسان؟

لإحداث التغيير المطلوب في هذه المنطقة، لم يتوقّف عمل الغرب وتخطيطه لقلب الأوضاع في بلداننا جميعاً منذ أيام الرئيس الأميركي ريغان وتلامذته الجمهوريين «والديمقراطيين» على الأقل، ولتغيير صورة هذه المنطقة وإخضاعها للهيمنة الغربية بعيداً عن مصالح شعوبها وحقوقها وحاجياتها. وشرح سيادة الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير بعد أدائه اليمين الدستوري لولاية رئاسية جديدة هذا الوضع بصورة مبدعة إذ قال: «إنّ الغرب الاستعماري لا يزال استعمارياً … فالجوهر واحد وإن اختلفتْ الأساليب. كانتْ الرؤية واضحة تماماً منذ الأيام الأولى للعدوان، حينها رفض الكثيرون كلمة مخطط وعدوان ولم يقتنعوا إلاَّ متأخرين بعد فوات الأوان أنّ ما يجري في البلاد ليس مطالب محقّة لشعب مضطهد، ولا تظاهرات حملتْ مطالب بالحرية والديمقراطية بل هو مخطط كبير للمنطقة برمتها لن يقف عند حدودنا». وأضاف الرئيس الأسد: «لقد رفضنا غزو العراق لأنّه كان بداية لتكريس الانقسام والطائفية … ومنذ بداية الأحداث حذّرنا بأنّ ما يحصل هو مخطط لن يقف عند حدود سورية بل سيتجاوزها منتشراً عبر انتشار الإرهاب الذي لا يعرف حدوداً». وفي كلام بليغ ومعبّر حول الجانب الجغرافي السياسي: «حينها قال البعض إنّ الرئيس السوري يهدد العالم … حينها تحدثت عن خط الزلازل الذي يمر في سورية، وقلتُ إنّ المساس بهذا الخط سيؤدّي لزلازل لن تتوقّف ارتداداتها في سورية ولا عند الجوار بل ستذهب لمناطق بعيدة».

إنّ الكارثة الحقيقية التي قاد إليها الفكر الغربي المتصهين، بل أستطيع وبثقة تامة القول الفكر المتخلّف والجاهل بحقائق المنطقة، هو أن تطلّع الغرب إلى التغيير، في حال سلّمنا أن التغيير مطلوب في المنطقة، هو ذهاب هؤلاء إلى العنوان الخطأ. فلو افترضنا أنّ تونس والقاهرة وطرابلس الغرب وصنعاء في حاجة إلى تغيير لتنسجم مع «التطلعات الحضارية» التي يبتغيها الغرب «لتحديث هذه المنطقة ورفع سويتها» كما ادعوا فإنّه كان عليها أن تتجه أوّلاً إلى أنحاء أخرى في المنطقة بما في ذلك بشكل خاص نحو إزالة الظلم الفادح والتاريخي الذي حل بالشعب الفلسطيني. فتصحيح هذا الخلل الدامي والجرح النازف في جسد المنطقة هو ما كان يحتاج إلى «الربيع أوّلاً» وبعد ذلك كان على هذا «الربيع العربي» أن ينطلق إلى أكثر دول المنطقة حاجة إليه لتغيير أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية البالية، وهي دول الخليج أولاً لتنسجم من حيث المبدأ وافتراضياً مع المعايير التي وضعتها الدول الغربية نفسها، في إطار شعورها بالتفوق العنصري على الشعوب الأخرى. إلاَّ أنّ «الربيع العربي» الذي رفع راياته الذين لا يؤمنون إلاَّ بالقتل وسفك الدماء وتدمير كنوز الحضارات التي انطلقت من الشرق العربي بدعم غربي، انطلق مدمّراً منذ أيامه الأولى التي وإن قادتْ إلى بعض التفاؤل في البداية، إلاَّ أنّها انقلبتْ لاحقاً إلى أكبر كارثة حلّتْ بالعرب وقضاياهم وصورتهم وإنجازاتهم.

لا نريد على الإطلاق تحدّي مشاعر العرب الشرفاء الذين أخضعتهم أنظمة بلدانهم للنفوذ الغربي ولاتفاقيات كامب ديفيد وأذلتهم للانتظار في صفوف على موائد اللئام في بعض الدول الخليجية والعواصم الغربية لتلقّي المساعدات التي لم تكفهم قوت يومهم. وكانتْ هذه المساعدات مشروطة بما يتناقض مع شرف العرب وكرامتهم. ألم تصبح مصر كامب ديفيد والسادات وحسني مبارك أقرب إلى مستعمرة فرضوا عليها ألا تجرؤ على قول كلمة حق لمصلحة الشعب الفلسطيني ولمصلحة الشعب اللبناني الذي واجه العدوان «الإسرائيلي» عام 2006 بدعم صريح من نظام كامب ديفيد ورجالاته، مثلما نقرأ الآن في مذكراتهم المنشورة؟ لكن هيهات أن يأتي «الربيع العربي» لخدمة كرامة العرب وحقوقهم، بل توجّه فوراً ووسط انتخابات أسموها زوراً «ديمقراطية» لم يفز فيها في تونس والمغرب وليبيا ومصر سوى «الإخوان المسلمين» ومن يدعمهم. هل كان ذلك «ربيعاً عربياً» أم «كارثة عربية»؟ هل يستطيع أيّاً كان في هذا العالم أن يقنعنا بأن تلك كانتْ إرادة الشعب العربي في تونس ومصر وليبيا وأنّ البديل المطروح أمامهم لم يكن إلاَّ «الإخوان المسلمين» فحسب ومن يلتف حولهم من المتطرفين؟!

مرّة أخرى نقول إنّنا نعتزّ بشعبنا العربي الذي أراد التغيير فكانتْ له ثورة 30 يونيو وليس 18 يناير، وشعبنا التونسي الذي فرض على «الإخوان المسلمين» وحزبهم، حزب النهضة، التراجع والانكفاء خوفاً من ثورة عارمة ضد حزب «الإخوان المسلمين» وكان أوّل إنجاز لنظامي «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس إغلاق سفارتي سورية وسحب سفرائهما من دمشق! لكننا نؤكد أنّ الدول الغربية هي التي دعمتْ وساندتْ وموّلتْ الرئيس بن علي والرئيس حسني مبارك حتى آخر لحظات بقائهما في السلطة، إلاَّ أنّ فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تبرأتْ من هذين كبراءة الذئب من دم يوسف عندما وجدتْ أنّ ربيع «الإخوان المسلمين» و«ربيع أردوغان» يخدمان مصالحهم الاستعمارية. أمّا الدول الغربية التي تدعو عادةً إلى التحوّل «السلمي الديمقراطي» فلجأتْ إلى تغيير دموي في ليبيا حيث جنّدتْ هذه الدول أيضاً السعودية وأدواتها المعروفة في الخليج لشن غزو وحشي، بقيادة قوّات الناتو شاركت فيه الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وحلفاؤهما ضد ليبيا، دمّر الإنسان والممتلكات والبنى التحتية بلا رحمة. قتل هؤلاء في ليبيا على الأقل عشرات الآلاف في قصف «ديمقراطي» أدّى إلى تفتيت الدولة الليبية وتسليمها لقمة سائغة إلى الإرهابيين المدرجة أسماؤهم على لوائح «بان كي مون» للكيانات الإرهابية. بلى نحن غاضبون، لأنّ هذا العدوان ترك مدينة سرت ومدناً ليبية أخرى مدمّرة بالكامل.

في آذار عام 2011، وفي خضم «الربيع العربي»، أمرّ مجلس الأمن القرار 1973 الذي يدعو إلى «وقف إطلاق النار… ووضع حد للعنف والهجمات ضد المدنيين». واختار التحالف الثلاثي المؤلّف من فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة وأدواتهم العربية خرق القرار، ونجح هؤلاء في تحقيق هدفهم القاضي بتغيير النظام، في انتهاك فاضح للقرارات التي تدعو إلى التصرّف عكس ذلك. ونتيجةً ما حصل، تتنازع اليوم الميليشيات المتحاربة التي أتى بها الغرب لقيادة ليبيا، فيما أطلق عنان الإرهاب «الجهادي» في معظم أفريقيا. ونتيجةً «لنجاح الدول الغربية الباهر» في ليبيا، نراها اليوم وقد سحبتْ جميع سفرائها وأغلقتْ سفاراتها كافة في ليبيا. إنّ ما يُبنى على الباطل هو باطل، وعلى من قام بغزو ليبيا الفاشل ودعم الإرهاب في سورية أن يعتذر للشعوب الأوروبية والعربية وأن يرحل!

هؤلاء هم الفاشلون في حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرهم، فهل يحاسبهم إعلامهم الذي كذبوا عليه ووظفوه لخدمة تضليلهم ونتائج غبائهم في أفضل الأحوال؟ هل سيحاسبهم شعبهم؟ نأمل ذلك، فالشعب لا يعطي بعضهم أكثر من عشرة في المائة في الاستطلاعات التي نقرأ عنها، وخاصّةً في فرنسا. ولو قبلنا بمنطق حسن النية أنّ هؤلاء فشلوا، وقد فشلوا حقّاً، فلماذا لا يعتذرون ويرحلون؟!

في إطار هذا التحليل السياسي والجغرافي لما يحدث، كتب ماغنوس نوريل من معهد واشنطن ما يلي: «كثيرةً هي الدول، من الساحل الغربي في أفريقيا إلى أفغانستان وباكستان في الشرق، التي تتسبب فيها التنظيمات الإسلامية المتشددة المسلّحة من الجماعات الصغرى إلى الحركات الكبرى بإحداث الفوضى والخراب وتأجيج الحروب والنزاعات. ويتسع نطاق أعمالها ليتراوح ما بين الإجرام كالإتجار واحتجاز الرهائن والتهريب والتزوير والحرب العسكرية الكاملة على غرار ما يحدث في سورية والعراق». ويتابع الكاتب قائلاً: «وفي الوقت نفسه تشكّل هذه المجموعات مجتمعة تهديداً استراتيجياً للمناطق التي تنشط فيها ولأوروبا والولايات المتحدة على حد سواء حيث يتم تجنيد ألوف الناشطين. فالناشطون الذين يعودون بعد ذلك إلى ديارهم إذا لم يلقوا حتفهم في القتال غالباً ما يعودون بنزعة أكثر تطرّفاً وبتصميم أقوى على المضي قدماً في جهادهم الوهابي».

لماذا احتاج الغرب، والفاشلون فيه، إلى هذا الوقت كلّه لفهم ما يحدث؟ ألم يكن هؤلاء على دراية بما تحمله بذور التطرّف من أخطار في عصر العولمة على جميع أنحاء العالم؟ إذا كانتْ القيادة هي الحكمة وفن مواجهة الأخطار في الوقت المناسب، فالسؤال المطروح هو: لماذا لم تلجأ الدول الغربية إلى استحداث تدابير مضادة أكثر فاعلية لمحاربة التهديد الاستراتيجي الذي تشكّله هذه التنظيمات الإرهابية والجماعات والحركات المتطرّفة؟ للتغطية على عوراتهم، ادعى هؤلاء الغربيون وجود مجموعات مسلّحة «معتدلة» يمكن التفاوض معها، ومجموعات متطرّفة قبلوا بوضع أسماء بعضها على لوائح الإرهاب الدولي، إلاَّ أنّهم عادوا و»اكتشفوا الدولاب من جديد» وأنّه لا يوجد إرهاب وقتل معتدل وإرهاب وقتل متطرّف، بل أنّ كل من يحمل السلاح ضد دولته ونظامه السياسي إرهابي ومتطرّف. وعندما خرجتْ بعض المجموعات وألهبتْ شوارع ضواحي باريس وبعض شوارع لندن، استخدمتْ هذه الحكومات نفسها التي تقول بقتلة معتدلين وقتلة متطرّفين كل ما في يدها من قدرات للقضاء على هؤلاء، معتدلين وغير معتدلين. كما ادعى هؤلاء أنّ سورية أصبحت مغناطيساً يجذب الإرهابيين، إلاَّ أنّ المنطق جافاهم هذه المرّة أيضاً فهم الذين يرسلون الإرهابيين إلى سورية وإلى العراق، ولا يمارسون أي ضغط يذكر على عملائهم في السعودية وغيرها لوقف تمويل هؤلاء القتلة وتسليحهم. وعندما يناقشون مسألة تمويل الإرهاب والإرهابيين فإنّهم يؤمّنون الحماية الكاملة لإرهابييهم، ويبررون جرائم من يقتل شعبنا في سورية والعراق في ازدواجية فاضحة للمعايير. ويدين هؤلاء ما يسمى بـ«داعش» في العراق ولا يدينون «الداعش» ذاته في سورية!

أضاع الأصدقاء الروس الكثير من وقتهم القيّم وهم يتفاوضون على شطب كلمة هنا وزيادة حرف هناك مع ممثلي كلٍ من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لإصدار بيان في مجلس الأمن يدين تمويل الإرهابيين من عائدات بيع النفط السوري والعراقي، أهكذا يحارب الغربيون الإرهاب؟ وهؤلاء هم أنفسهم من منع مجلس الأمن من إصدار قرار يوقف العدوان الدموي «الإسرائيلي» على قطاع غزّة حيث ساوى هؤلاء الفاشلون بين الجلاد والضحية وقدّموا حماية إلى «إسرائيل» ولجرائمها ضد الإنسانية أمام بصر شعوب العالم.

في الإطار الجغرافي السياسي ذاته، يهدد هؤلاء الأمن والسلم في القارّة الأفريقية وفي آسيا ضد مصالح دول نامية مثل الصين والهند والباكستان وفي أوروبا من خلال سياسات حمقاء ضد روسيا الاتحادية تمثّلتْ في إفشال جميع مساعي القيادة الروسية لحل المشكلة الأوكرانية بالطرائق السلمية والمبادرات البنّاءة. أمّا السياسات الأميركية الغربية ضد دول أميركا اللاتينية وشعوبها واعتبارها حديقة خلفية لمصالحها على حساب شعوب هذه القارّة، فقد سقطتْ، كما أنّ شعوب فنزويلا والبيرو ونيكاراغوا والبرازيل والإكوادور، التي بادرتْ إلى سحب سفرائها من «إسرائيل»، خرجتْ على الطاعة لأميركا وربيبتها «إسرائيل».

أليس حريّاً بهؤلاء الذين يدفعون العالم نحو هاوية جديدة انطلاقاً من أوكرانيا والشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا في إطار مصالحهم الجغرافية السياسية أن يتراجعوا وأن يعودوا إلى المصالح الحقيقية لشعوبهم وهي العيش بسلام بعيداً عن الإرهاب والحقد والكراهية والسياسات الاستعمارية، وبناء عالم يقوم على مفاهيم الديمقراطية في العلاقات الدولية والتعاون لإعلاء شأن التنمية والعلاقات الودّية بين الدول والشعوب؟

إنّ سورية، بمواقفها الصامدة ضد العدوان الإرهابي المدعوم من قِبَل الدول الغربية والعربية العميلة لها، مستمرّة في نضالها للحفاظ على سيادة شعبها وكرامته بفضل دماء الشهداء وبطولات الجيش العربي السوري والتفاف شعبنا حول قيادته وجيشه. وإذا تمكّن الإرهابيون بدعم خليجي معلن من قطع الرؤوس البشرية وأكل القلوب والأكباد من دون أي يتحرّك فيهم أي وازع إنساني، إلاَّ أنّ شعبنا لن يستسلم لهؤلاء الخارجين على قيمنا الحضارية والمتحالفين مع عدونا، والذين لم يرسلوا مجاهداً واحداً إلى غزّة.

لن يتسامح التاريخ على الإطلاق مع من سخّر آلة القتل والتدمير ومنطق الجغرافيا السياسية الفاشية للقضاء على حضارتنا وعلى الإرث الإنساني في بلادنا، وليعرف الفاشلون أنّ شعوب العالم لن تتسامح مع من يستبيح المحرّمات إذ أُصيب بداء العمى والغرور والإرهاب، فلترحلوا أيها الفاشلون!