منذ سنوات طويلة، لم يلجأ الفاتيكان إلى دعم الخيار العسكري من أجل معالجة أي قضية، والبعض يقول إن هذا الأمر يعود إلى توجهات المجمع الفاتيكاني الثاني(*)، الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون عام 1962 واستمر في عهد البابا بولس السادس عام 1965، حيث تم التشديد على ضرورة رفض العنف في حل المشاكل وتعزيز الحوار بالمحبة.

من هنا يمكن الإنطلاق لفهم رفض الكنيسة الحرب على العراق في العام 2003، حيث أكد البابا يوحنا بولس الثاني "أنها جريمة ضد الإنسانية"، وكذلك تشديد البابا السابق بنديكتوس السّادس عشر، في يوم السلام العالمي في العام 2011، على أنه "لا يمكن تبرير التّعصّب والأصوليّة والممارسة المخالفة لكرامة الإنسان"، وإعلان البابا الحالي فرنسيس الأول "أن الإيمان بإله واحد لا يتماشى مع العنف والتّعصّب".

في الأيام الأخيرة، صدر موقف بارز لمراقب الكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة المونسنيور سيلفانو توماسي، رأى فيه أن التدخل العسكري ضد الإرهابيين في العراق قد يكون ضرورياً نظراً إلى الممارسات التي تقوم بها الجماعات الإرهابية، خصوصاً تنظيم "داعش"، بالإضافة إلى دعوة ​البابا فرنسيس​ إلى تحرك دولي لوقف معاناة الأقليات الدينية في شمال العراق. هذا الأمر أدّى الى جملة من التساؤلات في بعض الأوساط، إلا أن مصادر كنسية مطلعة تؤكد عبر "النشرة" أن هذا الأمر لا يجب أن يكون مُستغرَباً من قبل أي جهة، وتربط المواقف الأخيرة بتبدل الظروف والمعطيات عما كانت عليه في السابق.

وفي سياق تفسيرها لموقف الفاتيكان، توضح المصادر أن الكرسي الرسولي رفض بشكل مطلق الحرب الأميركية على العراق، والتي كانت تشن ضد دولة بحجة إمتلاكها أسلحة دمار شامل، من دون أن يكون هناك أي براهين قاطعة على ذلك، لا بل بيّنت السنوات اللاحقة أن الولايات المتحدة الأميركية كان لديها أهداف مضمرة لهذه الحرب، وبالتالي هي لم تكن مبرّرة أخلاقياً أو دولياً.

أما بالنسبة إلى الأوضاع الحالية، فتؤكد المصادر نفسها أنّ الظروف مختلفة بشكل مطلق، وتشير إلى أن هناك مجموعة من المقاتلين المتطرفين، الذين لا يمثلون أي دولة، يستهدفون المجتمعات الشرقية عبر القتل والمجازر، والوجود المسيحي في هذه المنطقة، والذي يعود إلى أكثر من 2000 عام، وله دور كبير في تاريخها الحضاري، من دون أي ذنب سوى أنهم يؤمنون بما لا تؤمن به هذه المجموعة.

وتوضح المصادر الكنسية أنه، في الوقت الذي نرى فيه أن هناك حياة الآلاف من المواطنين مهددة، لا تبدو الدولة العراقية قادرة على حماية هؤلاء، ومن هنا تصبح هذه القضية إنسانية بالدرجة الأولى، وتؤكد أن الموقف الذي عبّر عنه المراقب العام الرسولي لدى الأمم المتحدة، يدخل ضمن إطار الدفاع عن النفس أو عن الإنسان المظلوم والضعيف في حال لم يكن هو قادراً على ذلك، وهذا الأمر تكفله كل الشرائع السماوية والمبادىء الإنسانية، ومنها ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان، وهذا مبدأ أخلاقي مطلق لا يمكن التغاضي عنه بأي شكل من الأشكال.

في المحصلة، لدى الفاتيكان نظرة شديدة الوضوح بالنسبة إلى الأحداث القائمة في العراق اليوم، والوضع وصل إلى مرحلة لا يمكن السكوت عنها، خصوصاً أن الدولة العراقية حتى الآن غير قادرة على ما يبدو على وضع حد لما يجري.

*أبرز أهداف المجمع الفاتيكاني الثاني تأتي في النقاط الخمس التالية

(1) تطوير علاقات إيجابية للكنيسة الكاثوليكية مع العالم الحديث.

(2) التخلي عن نظام الحرم القاسي الّذي استعمل في المجامع السابقة.

(3) التأكيد على حقوق الإنسان الأساسية بما يتعلق بالحرية الدينية.

(4) التأكيد على أن الحقائق الأساسية تُعلم أيضاً في ديانات ومذاهب غير الكاثوليكية.

(5) إصلاح الروحانية الكاثوليكية والسلطة الكنسية.