منذ توسّع سيطرة مسلّحي تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي، يتمّ تحميل أكثر من جهة مسؤولية تأسيس هذا التنظيم ودعمه وتمويله، تبعاً للموقع السياسي لمطلقي التهم، علماً أنّ الإتهامات في هذا الصدد طالت سوريا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية وغيرها من الجهات!

وسبب هذه المِروحة الواسعة من توزيع المسؤوليّات، والتي تبلغ مرحلة التناقض في كثير من الأحيان، يعود إضافة إلى الإتهامات ذات الخلفيّة السياسية، إلى صعوبة حصر هويّة مقاتلي "الدولة الإسلامية" من جهة، وإلى وضع جماعات "جهاديّة" أخرى تحت مظلّتهم من دون أيّ دليل. فإتهام النظام السوري بالوقوف وراء تأسيس تنظيم "الدولة الإسلامية" فيه الكثير من المبالغة. والصحيح أنّ القيادة السورية عمدت عند إنطلاق التظاهرات المطالبة بإسقاط النظام قبل ثلاث سنوات ونيّف، إلى إطلاق مجموعات من "الإسلاميّين المتشدّدين" الذين كانوا معتقلين في السجون السورية بشكل مشبوه في توقيته وفي الأسباب التخفيفية للأحكام التي برّرته. وكان الهدف تحويل الأحداث في سوريا من ثورة شعبيّة إلى حركة أمنيّة غوغائيّة تديرها جماعات متشدّدة ومتعصّبة دينيّاً، تستقطب الكثير من "الجهاديّين" من مختلف أنحاء العالم، ولا تخلو من الهجمات الإرهابية التي يرفضها الشعب السوري وشعوب العالم أجمع. وقد نجح النظام السوري في تحقيق هدفه هذا بشكل كبير، كما تُظهر القراءة الحالية للأحداث في سوريا. وقبل هذه المرحلة، لعب النظام السوري دوراً مُهمّاً في تأمين عبور "المجاهدين" إلى العراق لتنفيذ هجمات ضد "قوات الإحتلال الأميركي" منذ العام 2003، قبل أن تخرج هذه الهجمات عن السيطرة بعد مدّة وتتوسّع لتشمل دور العبادة المسيحيّة والشيعيّة والمصالح الرسميّة الغربيّة والعراقيّة الموالية لإيران.

وإتهام الولايات المتحدة الأميركية بالوقوف وراء تنظيم "الدولة الإسلامية" فيه أيضاً الكثير من المبالغة. والصحيح أنّ واشنطن قامت في حقبة الثمانينات بدعم "المجاهدين" في أفغانستان ضدّ المدّ الشيوعي آنذاك، الأمر الذي أسّس لاحقاً لما عُرف بإسم تنظيم "القاعدة" الذي وسّع ضرباته الإرهابيّة لتطال مختلف أنحاء العالم، بما فيها أميركا نفسها. وساهمت واشنطن حديثاً أيضاً في دعم الكثير من الجماعات الإسلامية المتشدّدة إنطلاقاً من مصالح تكتيّة وأخرى إستراتيجيّة، مرتبطة بإضعاف أنظمة إقليميّة وبإسقاط أخرى وبتغذية صراعات سياسية ومذهبيّة لأهداف مختلفة، منها إستنزاف أنظمة معادية، والضغط على أخرى، وبيع أسلحة لأنظمة حليفة مهدّدة، وتحوير تركيز الأنشطة المعادية لبعض الجماعات والتنظيمات بعيداً عن الأراضي الأميركيّة، إلخ. لكن الولايات المتحدة لم تبلغ مرحلة المشاركة مباشرة في تأسيس تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، كون هذا الأخير ومثيلاته، يُهدّد المصالح الغربيّة والأميركية وتلك الحليفة، قبل أن يُهدّد مصالح الدولة المعادية أو المناهضة لواشنطن. وأعضاء هذا النوع من التنظيمات، وبعضهم يحمل هويّات أميركية وأوروبيّة وغيرها، يُشكّلون خطراً كبيراً على هذه الدول، نتيجة عقائدهم المتزمّتة وقدراتهم الأمنيّة وإرتباطاتهم بأنظمة إستخباريّة متشعّبة.

وإتهام المملكة العربيّة السعودية بالوقوف وراء تنظيم "الدولة الإسلامية" فيه كذلك الأمر الكثير من المبالغة. والصحيح أنّ الرياض دعمت وتدعم، إن على مستوى السلطة الرسميّة أو على مستوى متموّلين مستقلّين، جماعات إسلامية مختلفة، لغايات مرتبطة بالصراع السياسي والعقائدي والمذهبي في المنطقة ككل، لكنّها في الوقت عينه واعية لعدم تكرار ظاهرة "بن لادن" التي ساهمت بتمويلها وبتوسّع نفوذها قبل أن ترتدّ عليها تفجيرات في قلب المملكة ضد مصالح سعودية وغربيّة. أكثر من ذلك، إنّ السعودية ترفض أن يتم تشكيل أيّ مرجعيّة سياسيّة أو دينيّة تخطف موقعها السياسي والديني في صفوف الأمّة الإسلامية. ومواجهتها مشاريع وصول "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في مصر وغيرها، تصبّ في هذه الخانة. وهي لم تتردّد في مواجهة كل من تركيا وقطر نتيجة هذا الصراع على النفوذ السياسي الإقليمي، وعلى المرجعيّة الدينيّة. وكما يُشكّل مشروع "الإخوان المسلمين" خطراً على السعودية على هذين المستويين، فإنّ أهداف تنظيم "الدولة الإسلامية" البعيدة المدى تُشكّل خطراً أكبر، باعتبار أنّ هذا التنظيم يرمي إلى إنتزاع المرجعيّة الدينيّة للإسلام والمسلمين ووضعها بيد "الخليفة" المزعوم.

وبالتالي، يمكن القول إنّ كلاً من دمشق وواشنطن والرياض، ساهموا بشكل من الأشكال وبمرحلة من المراحل، بتأمين أسس نشوء تنظيمات على غرار "الدولة الإسلاميّة"، لكن من دون أن يكون أيّ منها مسؤولاً بشكل مباشر وحصري عن نموّها وتوسّع نفوذها. وبالنسبة إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي بالتحديد، فإنّ وصوله إلى هذا الحجم المُضخّم لا يعود لدعم جهة واحدة، بل إلى دعم منظومة واسعة من الأجهزة الإستخباريّة، وخصوصاً نتيجة إلتقاء مجموعة من العوامل المؤاتية والظروف المناسبة. ومن سخرية القدر أنّ جهود كل من دمشق وواشنطن والرياض وغيرها من العواصم المؤثّرة في الصراعات في الشرق الأوسط، إلتقت اليوم لتحجيم "الدولة الإسلامية"، إنطلاقاً من دوافع مختلفة تماماً. فخطر هذا التنظيم الإرهابي على النظام السوري تخطّى حالياً اللعبة الدعائيّة والإعلامية التي أرادتها دمشق، وصار تهديداً وجودياً. وخطر "الدولة الإسلامية" على أميركا تخطّى حالياً الضغط الأمني الذي أرادته واشنطن، وصار مباشراً على المصالح الأميركية والحليفة في أكثر من مكان في الشرق الأوسط. وخطر هذا التنظيم على السعودية تخطّى صراع النفوذ الإقليمي الذي أرادته الرياض، وصار مباشراً على المرجعيّة الدينيّة للمسلمين.