بات واضحاً أن هناك شبه إجماع وطني على الخطر الذي تمثله "داعش" وأخواتها على المجتمع اللبناني، بغض النظر عن رؤية كل فريق لطريقة مواجهته، فهي تتفوق في هذا المجال إلى حد بعيد، ولا يمكن القول أن هذا الخطر إنتهى بعد الأحداث التي شهدتها بلدة عرسال في البقاع الشمالي، لا بل هو أكبر اليوم، وما كُشف خلال المعركة الأخيرة يؤكد هذا الأمر، فهل هناك من هو غير مقتنع بأن "داعش" تريد الوصول إلى منفذ بحري بأي ثمن؟ وهل لديها الفرصة لذلك الاّ عبر الأراضي اللبنانية؟

لا يمكن إغفال تحذير رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، في مقال نشرته صحيفة "صانداي تلغراف"، من أنه "اذا لم تتم مواجهة هؤلاء المقاتلين البرابرة المتطرفين الآن وفوراً فإنهم سيؤسسون دولة ارهابية على شواطىء البحر الأبيض المتوسط"، فالرجل لا يتحدث عن أوهام فقط بل عن مخاطر باتت محدقة فعلاً، و"داعش" لم تعد فصيلاً مسلحاً فقط بل دولة لها إمكانات مالية هائلة مصدرها آبار النفط والغاز التي تنهبها بعد سيطرتها عليها.

وعلى هذا الصعيد، تشير مصادر متابعة إلى أن مختلف القوى السياسية اللبنانية تتوافق على الخطر الذي تشكله هذه التنظيمات من حيث المبدأ، لكن لدى الإنطلاق نحو البحث عن سبل المعالجة تظهر مشكلة أخطر وأكبر من "داعش" وأخواتها، وهي غياب الرؤية الموحدة.

وتلفت المصادر إلى أن هذه التنظيمات المختلفة في ما بينها وجدت نفسها في معركة عرسال مضطرّة إلى التحالف من أجل مواجهة الخطر الذي يتهددها، وهذا أمر طبيعي في مثل هذه الظروف التي يتحول فيها عدو العدو إلى صديق، وهي رأت أن لا مفر لها من التوحد عند إندلاع المعركة مع الجيش اللبناني لأن الإنقسام سيقودها إلى الإنتحار.

في الجهة المقابلة، لم تنجح القوى السياسية في تقديم نشرة أخبار موحدة تجمع فيها قياداتها من أجل التأكيد على دعم المؤسسة العسكرية، واليوم أيضاً هي غير قادرة على وضع رؤية موحدة لمواجهة هذا الخطر الذي تقر بوجوده، وهي مصرة على الإستمرار في تبادل الإتهامات حول الأسباب بدل المسارعة إلى وضع الحلول، ففي الوقت الذي ترى فيه قوى الرابع عشر من آذار أن مشاركة "حزب الله" في القتال الدائر في سوريا هي التي أدّت إلى تمدد المجموعات الإرهابية إلى لبنان، تؤكد قوى الثامن من آذار أن تواجد الحزب هناك ساهم في التقليص من الخطر بسبب ما يمكن تسميته بـ"الحرب الإستباقية".

وبعيداً عن البحث في الأسباب، التي تقود حكماً إلى جدلية "الدجاجة والبيضة"، ترى المصادر المتابعة، عبر "النشرة"، أن القوى السياسية لا تبدو قادرة على الإتفاق على آلية مواجهة، وذلك يعود إلى الإنقسام السياسي القائم منذ أكثر من 9 سنوات، فهناك قسمٌ كبيرٌ من قوى 14 آذار لا يرى إختلافاً بين "حزب الله" و"داعش" وأخواتها، في حين يعتبر البعض داخل قوى الثامن من آذار أن تيار "المستقبل" يدعم هذه التنظيمات بشكل أو بآخر.

وتؤكد المصادر أن الإجماع الذي تظهره هذه القوى على دعم المؤسسة العسكرية، ليس أكثر من إجماع صوري، حيث يريد كل فريق توظيف هذا الموضوع لتحقيق أهدافه الخاصة، موضحة أنّ البعض يريده من أجل القول أن سلاح الدولة قادر على الدفاع عنها في مواجهة الأخطار التي تتهددها، وليكون ذلك مقدمة لطرح فكرة نزع سلاح "حزب الله" من جديد، في حين يريد البعض الآخر أن يكون مقدمة لدعمه في المعركة التي يخوضها ضد الإرهاب.

وفي ظل هذا الواقع، لا يمكن أن يكون لبنان هو الجانب الأقوى في المواجهة، وهو حتى لم يستفد من تجربة توحّد الجماعات المسلحة ولو مرحليًّا لمواجهته، فالمشكلة أكبر من "داعش" وهي أزمة هويّة ورؤية لم تنته مع مرور الوقت، وعند أي خطر سنواجه الأمر بالطريقة نفسها التي لا توصل لنتيجة، لا بل مخاطرها تكون أكبر، والإنتصار في حال حصوله لن يكون إلا نتيجة لـ"صدفة" جميلة.