بعين الأب العاجز المتألم تنظر بكركي الى أولادها المسيحيين المشتّتين بين العراق وسورية وغزة. هؤلاء في قاموسها مسيحيون لا موارنة، لا يهمّ الى أي طائفة انتموا، فهم أبناء الكنيسة الذين يواجهون مخططًا تفريغياً يشوّش على دعوات الثبوت في الأرض أمام وحشيّة التكفيريّين.

صلواتٌ، آمالٌ، عبقُ بخّور، ونصف مليون دولار حملها كلّها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الى أربيل أمس. من كلّ مكان جمعها. من صلوات صرحه اليومي لمسيحيي شرقه النازف؛ من بخّورٍ يُنثر في قداديس الأحد على نياتهم؛ من رجال أعمال المؤسسات المارونية والمقربين من الصرح الذين أبوا أن يصل سيّدهم الى العراق فارغ اليديْن على ما علمت “​صدى البلد​” فحمّلوه المبلغ على رمزيّته مقارنةً بحجم المعاناة. معاناة يصفها مرافقو الراعي بالخياليّة التي تعجز أيّ عدسةٍ عن نقلها بأمانةٍ تامّة. هناك رصدت عينا الراعي وعيون الوفد المرافق فصول مأساة ناسٍ يستعير مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم (الذي كان في عداد وفد بكركي) من الأشياء نعتاً ليوصّفها: “أجساد مكدّسة أينما كان، على مقاعد الكنائس، تحتها، قرب المذبح، تحته، في خيمٍ تصل حرارتها الى أكثر من 50 درجة. الوضع مخيف حدّ سقوط كلّ معايير الوصف الدقيق”.

وصمة عار

ويشدد أبو كسم على أن “زيارة الراعي والبطاركة أتت تضامناً مع المسيحيين وغير المسيحيين، والمشهدية التي ارتسمت أمام أنظارنا وصمة عارٍ على جبين الإنسانية برمّتها. فما يعايشه النازحون غير مقبول في القرن الحادي والعشرين. ما رأيناه مؤلمٌ جداً، ومن المعيب أن يقف المجتمع الدولي متفرجاً وأن يصمت العرب وجامعة الدول العربية على مثل هذه المأساة”. وعن أهمية زيارة الراعي تحديداً أكد أبو كسم أنها “تحمل دعمًا معنوياً في الدرجة الأولى يتسلّح بدعوة هؤلاء المسيحيين الى عدم ترك أرضهم رغم الألم والعذاب لأن لديهم رسالة في هذا الشرق والكنيسة لن تتركهم وهم جزءٌ منها”. ولفت أبو كسم الى أن “المسيحيين الذين التقاهم الراعي طلبوا منه ألا يتركهم وأن يحمل قضيّتهم الى المجتمع الدولي والى كلّ العالم، وبناءً على هذا الكلام المؤلم ناشد الراعي المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي ومحكمة الجنايات الدولية والاتحاد الأوروبي لتكفّ عن اتّباع سياسة الصمت وتتحرّك بفاعلية إزاء ما يحصل”. وأردف: “اليوم (أمس) قُطِع رأس صحافي أميركي على يد الدولة الإسلامية فقامت الدنيا ولم تقعد، ولكن ماذا عن اضطهاد الآلاف وسبي النساء وإبادة عائلات بأمها وأبيها، كلّ ذلك ألا يستحقّ التحرّك؟”.

مساعدات بالتساوي

لا يغفو سيّد الصرح الماروني الذي يُعتبر جناحاً حاضناً لمسيحيي أنطاكيا وسائر المشرق في سريره مطمئناً الى أهل بيعته، وإن كانوا في العراق يعايشون أقسى ما مرّ عليهم حتى في حمأة الاجتياح الأميركي. هذه المرة ممارسات “الدولة الإسلامية” مختلفة والوجهات محدودة: كردستان المهدّدة هي الأخرى، تركيا، الأردن، لبنان أو من يستقبلهم في المهجر. من أجل هؤلاء حضر الكاردينال، كي يبقوا على رجاء العودة. وعلمت “البلد” أن “الراعي وزّع المبلغ الذي حمله معه بالتساوي على مختلف الكنائس بين السريان الأرثوذكس والكاثوليك والكلدان والآشوريين، من دون أن يستثني الإيزيديين الذين التقاهم وسلّمهم المساعدات. وكان الراعي جمع هذا المبلغ من بعض رجالات الكنيسة المارونية الذين تداعوا في ما بينهم لتأمين مبلغٍ مقبول وتسليمه للراعي عشية توجّهه لتفقّد المهجّرين.

أوكسيجين للفاتيكان

في لبنان حكايا مهجّرين عراقيين كثيرة تهزّ بكركي. وفي الفاتيكان ثقةٌ كبيرة يضعها البابا في الكاردينال المشرقي القادر على شدّ عصب مسيحيي المنطقة لدفعهم الى إيثار خيار البقاء على الاستسلام للرحيل. وحيثما يغيب البابا الراعي حاضرٌ لمحاكاة الوجع في مهده... في أربيل التي قصدها بطاركة الشرق أمس حيث وجد الهاربون من “الدولة الإسلامية” ملاذاً موقتاً. أعدّت بكركي نفسها جيداً لزيارةٍ استثنائيّة في ظروف استثنائيّة. علم سيّد الصرح أن كلّ ما سيقوله عن الوجع المسيحي سيكون أشبه بكلامٍ محسوبٍ على الفاتيكان الذي يثق حبره الأعظم بدور الكاردينال الماروني وأهمية وجوده في هذا التوقيت بالذات في شرقٍ ينزف مسيحياً. ورغم أن للفاتيكان ممثلاً في العراق، إلا أن ما يقوله الراعي وما يحمله في جعبته من صلواتٍ ودعم يبقى بمثابة جرعة أوكسيجين للحبر الأعظم ومصدر اطمئنان الى أن هناك من يبثّ في نفوس مسيحيي الشرق أملاً للبقاء. علمًا أن زيارة الراعي الى أربيل لم تأتِ بإيعازٍ فاتيكاني مباشر، بل اتُخذ قرار الزيارة أثناء القمّة التي عقدها البطاركة في الديمان أخيراً.

أمننا من أمنهم

هو أشبه بسينودوس ميداني كتبه الراعي وسائر البطاركة بحبرٍ من وجع. لا يُرضي بكركي أن تعجّ شوارع العواصم الغربية بمسيحيي الشرق، ولا يطمئنها أن يبقوا في منأى عن إجرام التكفيريين لكن في ظروف لا تؤمّن لهم الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش. هو الهاجس الأساسي الذي نقله الراعي الى رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني داعياً إياه الى عدم التخلّي عن المسيحيين الذين شعروا وكأن دولتهم تخلّت عنهم أو عجزت عن حمايتهم. هاجسٌ بدّده رئيس الإقليم المهدد هو الآخر ضارباً على صدره ومتعهدًا بأن يكون أمن الأكراد من أمن المسيحيين.