يخطئ من يعتقد أن تنظيم "داعش" الذي برز فجأة بعد انهيار مشروع "الإخوان المسلمين" في المنطقة هو مجموعة من المقاتلين القادمين من التاريخ السحيق، والذين يهجمون للقتال بسيوف وأحصنة، وكل ما يريدونه هو قطع الرؤوس وممارسة الإجرام والقتل.

فعلياً، مَن يراقب ما تقوم به "داعش" خلال غزواتها يلاحظ ما يلي:

أولاً: القدرة على الاستقطاب، إذ لا يمكن لبضع آلاف أو عشرات الآلاف من المقاتلين السيطرة على مساحة هائلة توازي تقريباً مئة ألف كيلومتر في كل من العراق وسورية، والاستمرار في المحافظة عليها وحمايتها والتوسع نحو مناطق أخرى بدون أن يكون هناك تأييد واضح وأكيد من العشائر والمجموعات السكانية التي تعيش في تلك المناطق، خصوصاً في منطقة البادية.

ثانياً: القدرة على استخدام الدِّين، ودغدغة عواطف الكثير من المسلمين الذي يعتقدون أن حلم "الخلافة الاسلامية" التي سقطت، والقدرة على استعادتها والحكم بالشريعة بات قاب قوسين أو أدنى من التحقُّق.

ثالثاً: اللعب على التناقضات السياسية، واستغلال البُعد المذهبي، فالحديث المضخَّم عن مظلومية من لون مذهبي معيَّن، وهم السُّنة بالتحديد، سمحت لتنظيم "داعش" باختراق صفوف الجيش العراقي، وكسبت دعم العديد من "بعثيّي صدام" وغيرهم، الذين اعتقدوا أن التنظيم الإرهابي سيرفع عنهم الظلم والغبن والتهميش الذي عانوا منه بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وقد حاول التنظيم وغيره من التنظيمات استخدام هذا الأمر في لبنان، لشقّ صفوف الجيش اللبناني، إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، وهو ما ظهر في معركة عرسال مؤخراً، التي حاول خلالها بعض نواب طرابلس أن يواكبوا الإرهابيين بالحديث المذهبي، إلا أنهم خابوا، فاضطروا لتغيير خطابهم.

رابعاً: القدرة على استخدام التاريخ واستعارته بما يخدم أهدافه، فالمنطقة التي تسيطر عليها داعش اليوم، والتي تمتد من الرقة في سورية إلى الموصل في العراق، ومحاولة توسُّعه إلى حلب، تعيد إلى الأذهان المساحة التي سيطر عليها نور الدين زنكي قبل 900 سنة، وهي المنطقة المعروفة تاريخياً باسم بادية الشام، واللافت أن خطبة "أبو بكر البغدادي" التي أعلن فيها "الخلافة" كانت في مكان له مركزيته في هذا التاريخ بالذات، وهو جامع الموصل الكبير، الذي بناه نور الدين زنكي؛ مؤسس الدولة الزنكية.

خامساً: استخدام الحرب النفسية بدقة واحترافية، فما تقوم به "داعش" من نشر صور قطع الرؤوس والتنكيل بالجثث والتعذيب، وأخبار سبي النساء وقتل الأطفال ليست بدون هدف أو لإبراز وجهها البشع فحسب، بل لهدف واضح وذكي جداً، وهو إحداث الصدمة والترويع لدى الأعداء، فيفرّون من مناطقهم حالما يسمعون أن التنظيم قادم لاحتلالها، وبهذا تسيطر "داعش" على مناطق شاسعة بدون قتال.. هذا الأمر استخدمته العصابات الصهيونية، وأهمها الأرغون والهاغانا، حين استولت على فلسطين، فكانت تقوم بمجزرة في قرية ما وتقوم بتضخيمها، ما يجعل أهالي القرى المجاورة يفرّون من وجه تلك العصابات بمجرد تقدمها نحوهم. إن تطوّر وسائل الاتصال الحديث والإنترنت يساعد كثيراً في تحقيق هذا الهدف، خصوصاً أن أعداء "داعش" أنفسهم يساهمون في هذه الحرب النفسية.

خامساً: المقدرة على استخدام الدعاية السياسية، وإلا كيف يستطيع هذا التنظيم استغلال الشباب الأوروبي وتجنيده لو لم يكن متقناً لأساليب الدعاية، ومُلمّاً بتفاصيل عيش المسلم الأوروبي وحياته وتطلعاته، وما الذي يحفزّه للخروج من بلده إلى القتال مع الإرهابيين؟ ويبدو من خلال الخطبة التي ألقاها "أبو بكر البغدادي"، ومن شكله وهندامه، بالإضافة إلى الوسائل البصرية والتقنيات المستخدمة في الشريط، أنها تتجاوز بكثير قدرة وثقافة تنظيم إرهابي مفترض أنه قادم من العصور الوسطى، وخارج من البادية أو الصحراء العربية.

من خلال كل ما تقدَّم، لا يبدو أن تنظيم "داعش" هو مجموعة من الإرهابيين القتلة فحسب، بل الأكيد أن وراءه قيادة استخبارية محترفة تتقن التعامل مع التقنيات والدعاية السياسية والحرب النفسية، وتتقن دراسة المؤثرات الصوتية، ودراسة نفسيات وهواجس المسلمين، والثقافة السياسية للشعوب المسلمة في أرجاء العالم.. فمن هي هذه الاستخبارات التي تتقن كل ذلك؟ إنها استخبارات دول متطورة بالتأكيد.