اجتاحت "داعش" محافظات العراق الوسطى، وهجّرت المسيحيين والشيعة والأيزيديين والسُّنة الذين لم يبايعوها، وارتكبت المجازر والإبادة الجماعية، ولم يتحرك الغرب وأميركا..

دمّرت الكنائس والمساجد ونبشت قبور الأنبياء، واغتصبت النساء وذبحت الآلاف ولم يتحرك أحد، وشاركها الأكراد والبعث العراقي في غزوة الموصل؛ إما بالسكوت أو تهليل بعض العراقيين لـ"داعش"، واعتبروها "ثورة أهل السُّنة والجماعة"، لكن سرعان ما انقلبت "داعش" عليهم، أو أن أميركا أوعزت لها كما ورّطت صدام حسين في غزو الكويت ثم حشدت العالم لقصفه وتحرير الكويت وكانت النهاية القضاء على الجيش العراقي وحصار العراق ثم غزوه في العام 2003، وها هي اليوم أميركا تكرّر ذات السيناريو، فتبعث كلاب الصيد من "داعش" إلى أربيل، ثم توعز للبارزاني الاستغاثة بأميركا، فتسارع لنجدته والعودة إلى العراق.. فيلم أميركي طويل يهدف إلى إعادة التموضع في المنطقة بالقرب من آبار النفط والغاز، بعد فشل المشروع الأميركي عبر "الربيع العربي"، وخوف أميركا من انقلاب مشروعها عليها، فحصرت مهمة "النصرة" و"داعش" والتكفيريين بفتح الأبواب أمام تحالف دولي جديد بقيادة أميركا لغزو المنطقة، تكراراً لما فعلته بعد أحداث 11 أيلول 2001 بغزو أفغانستان لتحريرها من "طالبان" و"القاعدة"، وقد سارعت إلى إصدار قرار دولي من مجلس الأمن ضد "النصرة" و"داعش" توطئة لتوسيع تدخُّلها في سورية والعراق، ولتأمين غطاء دولي، لكنها تناست أن تكتب اسم "أبو بكر البغدادي" في قائمة المطلوبين من "النصرة" و"داعش".

بدأت أميركا بتحصين دولة كردستان بالسلاح والمال والغطاء العسكري والدعم الدولي، وإعطائها الانتصارات المعنوية والعسكرية، والإيعاز لـ"داعش" بالتوقف عند حدود أربيل أولاً، ثم الانسحاب من سد الموصل، وبعدها من كركوك والمناطق المتنازع عليها مع الحكومة المركزية، والتي يطالب بها الأكراد لاستكمال دولتهم.

لقد صرّح الرئيس الأميركي أوباما بأن التدخُّل الأميركي في العراق لحماية المصالح الأميركية وليست من أجل أحد، لا السُّنة ولا الشيعة أو المسحيين أو الأيزيديين، ولا حتى الأكراد.. المصالح الأميركية هي الهدف، وتمثّل كردستان "صنارة الصيد" الأميركية لاصطياد العراق ومكوّناته وطوائفه الواحدة تلو الأخرى، ليس بالغزو بل بالاستغاثة العراقية، والمؤسف حقاً أن يستدعي العراقيون المحتلَّ الأميركي بعدما طردته المقاومة، ويصبح الجلاد هو القاضي والمخلّص.

كردستان محمية أميركية وقاعدة عسكرية كبرى على حدود إيران، وكل الخوف من أن تمدّ ذراعها إلى سورية، وتُجهض العراق وتأسره، ومن أن تمثّل نقطة الارتكاز الثانية للمشروع الأميركي بعد "إسرائيل"، وتتكامل مع القائمة الثالثة في جنوب السودان.

لقد نجح الأميركيون مرحلياً بالعودة إلى العراق دون جيوش برية بواسطة "داعش" والفتنة المذهبية..

العراق نموذج رمزي للشرق الأوسط الجديد؛ القسمة تنال من الجغرافيا والشعب، لتسهيل ابتلاعهم لقمة لقمة.. تمهيداً لسقوط العراق بالقبضة الأميركية.

هل ينجح المشروع الأميركي في العراق والمنطقة؟ أعتقد أن المقاومة ستعيد التوازن وتفشل المشروع الذي هُزم عام 2006 في لبنان وتم إفشاله في سورية، لكننا أمام حرب طويلة تتلوّن فيها الأفعى وتبدّل جلدها، فتارة تكون احتلالاً أميركياً أو عدواناً "إسرائيلياً"، وطوراً تتحول حركة جهادية تكفيرية؛ من "القاعدة" إلى "داعش" و"النصرة".. ثم قومية كردية ثم فتنة مذهبية.

النفط والغاز روح العالم الصناعي، من يسيطر عليهما لا حاجة له بالجيوش الغازية لاحتلال بقية العالم، فهو الذي يحكم الاقتصاد والقرار السياسي ويحاصر الدول.. أينما وُجد النفط أو اكتُشف سيكون هناك حروب ومجازر.. وكردستان بئر نفط كبير؛ تماماً كما قطر والسعودية، مع استثنائية موقعها الجيوسياسي والأمني، وسهولة السيطرة عليها، لضعفها وفقرها وشعورها بالعزلة والغربة مع المحيط والجوار، والحلم التاريخي ببناء دولة مستقلة.

كردستان "صنارة أميركا" في العراق والجوار، ولن تصبح دولة، ولن تذوب في الكيان العراقي.. إنها "مخيم دولة" تحت رحمة أميركا، التي ستستغلها عسكرياً وسياسياً، وستعود إلى حجمها إذا أرادت أميركا.. كردستان النموذج الذي يتكرر في العالم العربي في سورية ولبنان وتركيا والسعودية ومصر وليبيا وغيرها.