بعد أن أخفقت حكومة رئيس وزراء العدو برئاسة بنيامين نتنياهو في دفع الجانب الفلسطيني إلى تفجير المفاوضات وتحميله مسؤولية فشلها، عقب تيقّنها من عدم إمكانية زحزحة المفاوض الفلسطيني عن مواقفه المتمسكة برفع للحصار عن قطاع غزة ووضع حدّ للاعتداءات «الإسرائيلية» وإعمار غزة، وإطلاق سراح الأسرى الذين أفرج عنهم في صفقة شاليط، عمدت هي إلى تفجير المفاوضات، وسحب الوفد «الإسرائيلي» من القاهرة والمبادرة إلى خرق الهدنة الممدّدة 24 ساعة متذرّعة بسقوط صواريخ على مدينة بئر السبع المحتلة. غير أنّ السؤال الذي طرح نفسه هو لماذا سارعت حكومة العدو إلى تغيير تكتيكها في آخر لحظة ولم تنتظر انتهاء موعد الهدنة. وقامت بالإغارة على قطاع غزة وهي تدرك بأنّ ذلك سيحمّلها المسؤولية عن التفجير، ويدفع الأمور إلى جولة من حرب الاستنزاف تسعى إلى عدم الانزلاق إليها، ولهذا هي لاهثة وراء تمديد الهدنة، وتسعى للتوصل إلى اتفاق دائم لوقف النار.

المدقّق في خلفيات القرار «الإسرائيلي» المفاجئ يلحظ أنّ هناك واحداً من احتمالين لا ثالث لهما:

الاحتمال الأول: أنّ الذي سرّع في وقف المفاوضات وخرق الهدنة. هو أنّ نتنياهو قد تبلّغ من الأجهزة الأمنية معلومات عن وجود قائد كتائب عز الدين القسام محمد ضيف في منزله، وأنّ الأمر يحتاج إلى قرار سريع لقيام الطائرات «الإسرائيلية» بعملية اغتياله في منزله قبل مغادرته. وبالتالي ضياع الفرصة.

ولذلك وجد نتنياهو أنّ اغتيال محمد ضيف يشكل في هذا التوقيت فرصة ثمينة يجب عدم إضاعتها، لأجل نصر معنوي، يعزز به صورته أمام الرأي العام «الإسرائيلي»، وداخل حكومته، بعد الإخفاقات المتتالية التي مُنيَ بها الجيش «الإسرائيلي» في الميدان والأمن، وفشل المفاوض «الإسرائيلي» في تحقيق أيّ مكسب في المفاوضات يعوّض الخسارة في الميدان ويحفظ ماء وجه «إسرائيل» وينقذها من دفع ثمن هزيمتها أمام المقاومة.

الاحتمال الثاني: أنّ نتنياهو يريد الخروج من المأزق الذي وجد نفسه فيه بين ضغط وزراء حكومته بالتشدّد في المفاوضات وعدم تقديم أية تنازلات في المفاوضات، وبين موقف المفاوض الفلسطيني الصلب في رفض التراجع عن مواقفه والمتمسك بتحقيق كامل المطالب الفلسطينية وبالتالي عمد إلى دفع الأمور نحو التصعيد، لوضع وزارته والجمهور «الإسرائيلي» أمام الاختيار بين تحمّل حرب استنزاف مكلفة لـ»إسرائيل» اقتصادياً ومادياً واجتماعياً وبشرياً، وبين الموافقة على المطالب الفلسطينية للتوصل إلى اتفاق يحقق وقفاً دائماً لوقف النار. طالما أنّ قرار اجتياح غزة أكثر كلفة على «إسرائيل» من حرب الاستنزاف الراهنة كما جاء في تقرير الجيش «الإسرائيلي» الذي قدم للحكومة، وكان في أساس استبعادها مثل هذا الخيار والذهاب إلى خيار التفاوض.

في كلا الاحتمالين يمكن القول:

1 ـ إنّ محاولة تحقيق إنجاز عبر اغتيال محمد ضيف وبالتالي تحسين موقف نتنياهو في المفاوضات وصورته الداخلية والنيل من معنويات المقاومة والشعب الفلسطيني قد فشلت وكشفت مجدّداً قدرة قيادة المقاومة على تضليل أجهزة الاستخبارات «الإسرائيلية» التي أخفقت في الوصول إلى معلومات دقيقة عن بنية المقاومة وأماكن وجود قياداتها، وتموضع منصّات صواريخها، ما دفع المحللين إلى القول إنّ «إسرائيل» قد أصيبت بالعمى الاستخباراتي على غرار ما حصل في حرب لبنان الثانية عام 2006.

وأدى الفشل الجديد إلى مفاقمة مأزق نتنياهو لا سيما أنّ قصف منزل محمد ضيف أسفر عن ارتكاب مجزرة جديدة بحق أفراد أسرته، والمدنيين في حي الشيخ رضوان في مدينة غزة.

2 ـ انزلاق الكيان «الإسرائيلي» إلى أتون حرب الاستنزاف من جديد حيث ردّت المقاومة على الاعتداء الصهيوني السافر، بالعودة إلى قصف المستوطنات والمدن المحتلة من فلسطين، وصولاً إلى تل أبيب ومطار بن غوريون والقدس ومدينة ديمونا وغيرها من المناطق الحيوية، ما أدى إلى شلّ الحركة الاقتصادية وحركة النقل والملاحة وعودة ملايين المستوطنين إلى الملاجئ.

ولأنّ الكيان «الإسرائيلي» لا يتحمّل البقاء في حرب استنزاف من هذا النوع، بدأت أصوات محلّليه بالدعوة إلى عدم الانجرار إليها حتى ولو كان الثمن هو اجتياح برّي لقطاع غزة. الأمر الذي يغرق كيان العدو وجيشه في مستنقع من الاستنزاف أكبر بكثير مما هو حاصل حالياً، عدا عن مضاعفاته وتداعياته ونتائجه التي لا يمكن التنبّؤ بها من الآن.

لذلك فإنّ الأرجح أن تؤدّي هذه الجولة الجديدة من حرب الاستنزاف إلى إفهام الكيان «الإسرائيلي» حكومة ورأياً عاماً بأنه لا مهرب من تقديم التنازلات في مفاوضات القاهرة، لقاء الحصول على وقف إطلاق النار، وهو ما دفع المحلّلين «الإسرائيليين» إلى القول إنّ المواجهة محكومة بالنهاية بالعودة إلى المفاوضات.