المعروف في علم الجغرافيا، أنَّ للبيئة والمناخ تأثيراً في بشرة الإنسان وطبائعه ومزاجه والسلوك، إلّا أنّ هذه القاعدة تنعكس عندنا، حين يصبح لبنان غابة بشرية تختلط فيها الأجناس والأشكال والأنواع والألوان، عند ذاك يصبح الإنسان هو الذي يؤثّر في المناخ الجغرافي والتاريخي والديمغرافي والحضاري.
في لبنان اليوم على ذمة الإحصاءات الرسمية نحوٌ من مليون ونصف المليون من السوريين: ولا يزال حبل العدد في ازدهار على الجرّار، بفضل سقوط البراميل على الأحياء وبيع النساء في سوق براميل الغاز.
وفي لبنان كذلك نحو من سبعمئة ألف من إخواننا الفلسطينيين والحدود لا تزال مفتوحة على الرحب والسعة لكل طارق منهم وطارئ.
وهناك نصف مليون عامل من إخواننا الفيليبيين والسيرلنكيين والأثيوبيين والكينيين، وسواهم من بعض أسيا وإفريقيا وسائر القارات، وتبشرنا مفوضية الأمـم المتحدة لشؤون اللاجئين أن العدد الإجمالي قد يصل قريباً الى حدود الثلائة ملايين ونصف المليون أي ما يزيد على عدد الذين هم لبنانيون متحدّرون من سلالات متجذّرة في التاريخ.
وما لك إلّا أن تتجول في الشوارع اللبنانية والساحات العامة والباحات لتطالعك أشكال بشرية تخال نفسك معها، شكلاً غريباً في وطنٍ كأن وجهه الجميل قد تعرّض للرشق بالأسيد.
والأدهى، أن من هؤلاء الإخوان، من هم مقاتلون ومجاهدون وأصوليون وتكفيريون ومرتزقة يتحركون بحسب عقود الإيجار، يقاتلون في لبنان ومن لبنان، ويقاتلون في سوريا ومن سوريا، ويتقاتلون فيما بينهم في العـراق والشام، وليس هناك من يتذكر براغيث الشاعر القائل:
يعلّمني البرغوث حين يعضَّني ببغداد، أَني في العراق غريبُ.
وسط هذه المعمعة البشرية الطاغية في لبنان، يصبح اللبناني هو الغريب في وطنه، أسوةً بصاحب «الصحائف السود» الأديب المصري ولي الدين يكن يوم انتفض ساخطاً لهيمنة الغرب على الشرق في قوله: «الشرق وطني وأنا في الشرق غريب».
الشيخ موريس الجميل كان يقول: «إن لبنان مدينة الله على الأرض» ولم يكن يخطر يوماً ببال الشيخ موريس أن ترتفع الكثافة السكانية في مدينة الله هذه بكل أبالسة الأرض وشياطينها، فيما الملائكة يتفيأون شجرة التفاح ومنهم من تشرّد محروماً من ملكوت ربك السماوي.
ومع تقلّص عدد الملائكة في هذه المدينة السماوية، لا يبقى من وسيلة لإنقاذها، إلاَّ أن يوحي الله الى نوح ليصنع السفينة من خشب الساج ويحمل أهله وعياله حين يرتفع الماء على رؤوس الجبال، وإذ ذاك يعود أهل السفينة بعد أن يهلك ما على الأرض من نبات وحيوان.
