يوم خرجت الرابية غامزةً من باب تعديلٍ دستوري يسمح للشعب بانتخاب رئيسٍ للبلاد على مرحلتين قال بعضهم إن عمادها جُنَّ حتمًا. قامت الدنيا ولم تقعد على ما وصفته أكثر من كتلة خصمة وحليفة بـ “الانقلاب الفاضح” على الطائف. لم يُقبَض طرحُ عون جدياً يومذاك حتى من أقرب مقرّبيه الذين راح بعضهم يضعونه في خانة “بالون الاختبار” عندما يُحرجهم سؤالُ صحافيٍّ عن مدى اقتناع الرابية بإمكانية المضي في طرحٍ مماثل.

اليوم، وبعدما اختبر التيار أرضيّة الرئاسة الهشّة التي لا تعد بإنتاج رئيسٍ في القريب العاجل، أعاد نغمة “انتخاب الرئيس من الشعب” الى الواجهة ولكن هذه المرة وفق مسارٍ قانونيٍ دستوريٍّ اقتضى من عشرة نوّابٍ منتمين الى التكتّل التقدّم باقتراح قانون يشرعن ما يصفه التيار بـ”الصحوة” الرئاسيّة المختلفة.

“فتّيشة” بلا مفاعيل

كلّ من في الرابية يعلم أن الطرح “مجنون” وأن حظوظه معدومة. هؤلاء مقتنعون بأن أطرافاً عدة لا تريد لموقع الرئاسة أن يكون أقوى، لا تريد تحت مظلة اتفاق الطائف أن تمنح رئيس البلاد مزيداً من الصلاحيات لن تكون إلا على حساب الرئاستين الثانية والثالثة وهو ما لا يناسب عرّابي الاتفاق الشهير”. في رأي هؤلاء “يخشى الكثيرون من طرح عون. يخشون سلوكه درب النور متى التفّ الشعب حوله واستشعر بأهمية دوره في انتخاب رئيس البلاد”. لا يشكّ اثنان في أن عون يريد أن يقطف مفاعيل هذه “الفتّيشة” على أكثر من مستوى: أولاً، لا يهمّ الجنرال إن مرّ الاقترح أو لم يمرّ وهو العارف بتعقيدات الدستور وعُقد المجتهدين، ولكن طرحاً مماثلاً يأتي بمثابة “قوطبة” على كلّ داعٍ الى انتخاب الرئيس قبيل الانتخابات البرلمانية. ومتى أصبح شبه يقين بأن المجلس يتّجه الى التمديد لنفسه، فإن آمال عون بانتخاب مجلسٍ جديد يفرز رئيسًا باتت ضعيفة، وهو ما يدفعه الى الارتقاء بمعادلة: الرئيس أولاً، لكن على طريقته بعيداً من نغمة “الرئيس التوافقي الذي لا طعم له ولا لون”. ثانياً، لا يُسقِط عون من حساباته أن طرحاً مماثلاً قد يعزّز موقعه شعبياً سواء نجح في تجاوز المراحل الدستورية أم لم يفعل. ثالثاً، ليس عون مبتدئاً في السياسة حدّ إظهار نفسه وكأنه لا يريد انتخاباتٍ رئاسيّة قد تُحرجه أمام بكركي أكثر وحتى أمام القواعد المسيحية، لذا قد يكون هذا الطرح بمثابة تحريك ماء الرئاسة الراكد على حساب ملفّ الانتخابات النيابية الذي يبدو أن الجميع غسلوا أيديهم منه وسلّموا بالتمديد.

قانونيو الرابية “بكّلوه”

بعد ساعاتٍ يطلّ أمين سرّ تكتل التغيير والإصلاح النائب ابراهيم كنعان ليشرح آلية الطرح وتفاصيله. طرح يؤكد مقرّبون من الرابية أن “كونه جنونياً في نظر البعض لا يعني عدم طرحه. إنه طرحٌ محقّ فحسب ونحن مقتنعون بأحقيّته إنقاذاً للبنان من الفراغ. أيّ مبادرة إصلاحية يمكن أن تواجه من بعض الأفرقاء وهذا ما حصل عندما أعلن عون عن هذا الطرح منذ فترةٍ قصيرة”. لا يعير أبناء التيار أهمية لحقيقة إغراق توقيت استعادة الطرح في التحليلات والأبعاد إذ إن هذه المبادرة، وعلى ما علمت “​صدى البلد​”، لم تمت يومًا في الرابية ولم تنم في أدراجها، بل كانت تُدرَس كي يكون طرحها “مبكّلاً” من كل النواحي لا سيما الدستورية والقانونية منها كي لا تسقط على هذين المستويَيْن ولإجبار مناهضيها على رفضها لأسبابٍ سياسيّة لا دستورية. وأوكلت الرابية خلال الفترة الفاصلة بين الإعلان عنها على لسان عون والتقدم بالاقتراح أمس الى مجموعة قانونيين ودستوريين محسوبين عليها دراسة الطرح بدقّةٍ والإحاطة به من كلّ النواحي كي لا تترك مجالاً لأيّ ثغرةٍ خاسرة، وانضمّ الى جوقة الدارسين المتبحّرين أعضاءٌ من تكتل التغيير والإصلاح قبل أن تنتهي عملية صوغ الطرح منذ أيام ويخرج عشرة نوابٍ ليعلنوا عن الاقتراح بثقة”.

أعطينا فرصة...

تتمسّك الرابية بمقولة: لا فرص بعد اليوم، وذلك من باب خيبتها من كلّ ما وُعِدت به في الفترات الأخيرة من دون أن تحصد ثمار الانتظار. فعلى ما يقول أبناؤها تعرّض عون لضغوطٍ كثيرة كي يتخلى عن حلم الرئاسة ويسحب ترشيحه وكانت على رأس الضاغطين فرنسا التي توسّطت لدى إيران لتضغط بدورها على حزب الله ليمون على حليفه الماروني ويقنعه بمغادرة الحلبة الرئاسيّة بالرضى إلا أن الأخير مقتنعٌ بترشيحه، ولعلّ ما حاولت الرابية فعله في الفترة الأخيرة إنما هو ما يعبّر عنه مقربوها: “أردنا إعطاء فرصة للحوار مع المستقبل ولكن ذلك لم ينجح. التواصل ما زال مستمراً ولكن على الصعيد الرئاسي الأمور نامت ولم تمت”.

لمَ لن يمرّ؟

أمام إصرار الرابية وتمسّكها بطرحٍ ظنّ الكثيرون أنه أجهِض قبل ولادته، لا تستبرئ مصادر 14 آذار توقيت إعادة إحيائه، مؤكدةً لـ”صدى البلد” أن “مثل هذا الطرح يعيد الى الذاكرة مشروع اللقاء الأرثوذكسي الذي يضرب العيش المشترك عرض الحائط شأنه شأن هذا المقترح الرئاسي الذي يُعتبر انقلاباً صارخاً على الطائف، وبالتالي لا حظوظ له نهائياً ولا يمكنه أن يمرّ بأي ثمن”. ولكن لمَ لا يمكن لطرح عون أن يمرّ بعيداً من النكايات السياسية؟ أولاً لأن البرلمان لا ينعقد ليقرّ تعديلاً دستورياً من هذا القبيل ولو استطاع الالتئام لأقرّ السلسلة ولقونن الإفادات ولانتخب رئيسًا أصلاً. ثانياً، لأن عرابي الطائف لن يسمحوا بتمريره بأي شكل من الأشكال بما يهدّد مواقعهم وصلاحياتهم. ثالثاً، وعلى ما تشير مصادر الرابية، لأن هناك ببساطة من لا يريد لموقع الرئاسة أن يزهر. رابعاً وأخيراً، لأنه لا يمكن بيع مثل هذه الورقة لعون حتى من قبل حليف الحليف أي الرئيس نبيه برّي أحد صانعي الطائف. علمًا أن الطرح العوني يقوم على إعطاء الكلمة للشعب من خلال انتخاباتٍ رئاسيّة على مرحلتين الأولى تكون للمسيحيين حصراً والمرشحان اللذان ينالان النسبة الأكبر من الأصوات ينتقلان الى المرحلة الثانية حيث يختار جميع اللبنانيين من بينهما رئيساً البلاد.

سلاحها الوحيد... طرح

إذاً الرابية تريد وصول عمادها الى بعبدا بأي ثمن... وحيدة تسير هذه المرة بلا وعودٍ على درب تحرير الاستحقاق من كلّ الضغوط والذبذبات... سلاحُها الوحيد اليوم: اقتراح يمنح السلطة للشعب الذي تظنّ أنه لن يخذلها.