استيقظت صباح اليوم وكنت قد حلمت بحيتان وبيرانا المال حيث هناك حيتان يقضمون قضمة كبيرة وآلاف البيرانا الذين يقضمون قضمات صغيرة ولكنهم يتسبّبون أيضاً بموت الضحية بسرعة فائقة، وطالعت الجرائد الصادرة، وكالعادة الأجواء بعيدة كلّ البعد عن الاقتصاد والحاجات الاقتصادية، وشعرت بحاجة إلى أن ننقل البحث الاقتصادي مؤخراً من باب زيادة الضرائب وتمويل السلاسل التي تزيد من خنق المواطن، وكأنّ لبنان سائر باتجاه تعميم الفقر بدلاً من تعميم البحبوحة. أحدهم يجب أن يتكلم عن زيادة الإنتاج وفرص الإنتاج وزيادة الاستثمار لتخفيف الهجرة، لأنّ البلد سيقتصر على الحيتان والبيرانا فقط.

وشعرت بالغياب الرهيب للاقتصاد في تفكيرنا وخططنا واستراتيجياتنا ومناقشاتنا، حيث تبقى علة هذا البلد وضع الشأن الاقتصادي في أسفل سلّم الأولويات، وتذكرت حكومة الرئيس ميقاتي التي كنت جزءاً منها والتي كانت تضمّ رجال أعمال واقتصاديين، وعلى رغم ذلك بقي الشأن الاقتصادي في الدرجة الثانية وبقي التجاذب السياسي المسيطر الأول وما زال على كافة أعمال الحكومات.

لقد انعكست الأزمة الأمنية بصورة واضحة على السياحة والخدمات، وكان من المفروض على القطاع السياحي تأمين الدخل الأساسي للاقتصاد وعندما تسلّمت حقيبة وزارة السياحة في عام 2009، جاءت أرقام عام 2010 قياسية بامتياز حيث تخطى لبنان للمرة الأولى بتاريخه

عتبة المليوني سائح، إلا أنّ الأحداث الأمنية لم تسمح بمضاعفة هذا الرقم كما كنا نطمح، إذ بدأ الانخفاض في أعوام 2011، 2012 و2013… وما زال مستمراً حتى الآن، واتهمت حكومة الرئيس ميقاتي في حينه أنها حكومة معادية لدول الخليج، وبعد تشكيل الحكومة الجديدة التي من المفروض أنها حكومة صديقة للخليج، اتضح أنّ الاتهامات كانت سياسية محضة إذ لم تتغيّر الأرقام حتى الآن وما زال الانخفاض مستمراً، وهو نتيجة طبيعية إذا ما استمرّ التأزم الأمني.

أما الصناعة فقد كان واقعها مختلفاً، فهي القطاع الأكثر ثباتاً في وقت الأزمات، وبخاصة بعد زوال المنافسة مع الصناعة السورية، وقد كان من المتوقع أن تستفيد الصناعة اللبنانية من ذلك، وهكذا كان فزادت صادراتنا زيادة لا بأس بها، إلا أنّ الأرقام الصادرة أتت لتثبت عدم قدرة الصناعة اللبنانية على تثبيت موقعها التنافسي، حيث تراجعت قيمة الصادرات الصناعية اللبنانية خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي إلى مليار و16 مليون دولار مقابل مليار و188 مليوناً خلال الفترة نفسها من عام 2013 السابق ومليار و239 مليوناً خلال الفترة عينها من عام 2012، أيّ بانخفاض بلغت نسبته 14.5 في المئة مقارنة مع عام 2013 و18 في المئة مقارنة مع عام 2012 على التوالي.

عادة عندما تظهر أرقام كهذه في أيّ بلد في العالم ترفع شارة الخطر وتعقد جلسة حكومية خاصة لمعالجة النتائج وإيجاد الحلول، خصوصاً أننا نتكّل على الصناعة لرفع الاقتصاد في ظلّ تعثر قطاع السياحة والخدمات، ولكن تمرّ هذه الأرقام مرور الكرام كأننا تعوّدنا على التردّي الاقتصادي كجزء من ثقافتنا الاقتصادية.

فهل يُعقل اليوم في بلد مثل لبنان، معزول برياً، أن لا يأخذ إجراءات تخفيض أكلاف التصدير بحراً؟ وهل يُعقل أن تكون كلفة مستوعب 40 قدماً لوضعه على ظهر باخرة حوالى 800 دولار أميركي، وهذا المبلغ لا يشمل الناولون، وهو أغلى سعر في العالم، هذا الرقم لا يستفزّ أحداً في ظلّ صراع الصناعيّين على البقاء على رغم العزل البري، ولكن لا حياة لمن تنادي؟ هل يُعقل أنّ طنّ المواد الأولية البلاستيكية مثلاً التي كانت تأتي من دول الخليج المشحونة براً كانت تكلفة تخليصه تبلغ 7 دولارات، أما اليوم فتبلغ كلفة تخليص الطنّ 70 دولاراً عبر مرفأ بيروت، وطبعاً هذه الأرقام لا تستفزّ أحداً.

عندما نرى المزايا التنافسية والتفاضلية للصناعة اللبنانية، ننظر إليها ولكن لا نحلّلها ولا نعمل على تطويرها. ألم يحن الوقت اليوم لكي تؤمّن الحكومة اللبنانية خطاً بحرياً للشاحنات اللبنانية من خلال باخرةRO-RO تنقل الشاحنات اللبنانية إلى مصر مثلاً من دون مقابل لتستطيع هذه الشاحنات العبور إلى دول الخليج؟ ومن الجدير ذكره أن كلفة الشاحنة القاطرة والمقطورة من وإلى دول الخليج مع التأمين هو حوالى 4000 دولار في كلّ اتجاه، أيّ ضعف ما كانت عليه.

قصة إبريق الزيت بالنسبة إلى أكلاف الشحن البحري، والتي لا نزال نردّدها منذ سنين وسنين لم تتغيّر على رغم عزل لبنان براً، ومن المفروض أن تكون كلفة وضع مستوعب 40 قدماً على ظهر الباخرة ما بين 300 و 350 دولاراً أيّ أقلّ من نصف الكلفة المعمول بها اليوم، والتي يذهب نصفها سمسرات من هنا وهناك، وهذا المبلغ يجب أن يشمل كلفة الـFOB التي تتقاضاها شركات الشحن والتي يجب ألا تتخطى كلفتها المئة دولار.

يجب أن تعمد الحكومة في ظلّ الوضع الراهن من العزل البري وانخفاض أرقام الصادرات إلى خلق خط عسكري بالنسبة للتصدير، وتفرض هذا السعر على الجميع، وتمنع أصحاب النفوذ من استغلال التصدير مهما كلف الأمر، فالتصدير اليوم هو بمثابة الرئة التي يتنفس منها الاقتصاد اللبناني، التصدير مقاومة، التصدير مقدس، التصدير مرتبط بوجودنا، ويحق للمصدّر ما لا يحق لغيره اليوم، هذه مبادئ يجب أن تشكل قناعة عند الجميع اليوم.

أما بالنسبة إلى الإجراءات الضريبية، من ضريبة دخل وغيرها، فنذكر الحكومة بأنّ كلفة الطاقة على الصناعة اللبنانية هي ما بين 7 إلى 10 أضعاف الكلفة في الخليج العربي ومصر. ولهذا السبب يجب إعفاء الصادرات من كلّ الضرائب والرسوم، والأمل الوحيد لتحقيق أيّ نمو اقتصادي لا يتحقق من دون تخطيط، وهذا لا يمكن أن يتحقق بالاتكال على السياحة والخدمات في ظلّ الظروف الراهنة بل على الصادرات الزراعية والصناعية.

فمثلاً… لقد أوقفت روسيا استيراد الفواكه والخضار من أوروبا، فأين لبنان من انتزاع حصة صغيرة من السوق الروسية اليوم، أين تسهيلات تصدير الفواكه والخضار من مطار بيروت؟ فليزر الوزير المسؤول عنابر التبريد في مطار بيروت ويرى بنفسه، ولن أزيد على ذلك! وما يصحّ بالنسبة إلى المرفأ حول المصاريف الجانبية يصحّ أيضاً بالنسبة إلى المطار.

لقد طرحت هذه المواضيع بإلحاح حين كنت وزيراً للسياحة، علماً أنها خارج صلاحياتي، أما اليوم فالوضع لا يتحمّل وباتت القضية قضية حياة أو موت، ففي ظلّ خطر الداعشية، وأزمة اقتصادية أدّت إلى هجرة أكثر من 50 في المئة من خريجي جامعاتنا، أتوجه بصرخة وبكتاب مفتوح إلى دولة الرئيس تمام سلام ووزراء المالية والصناعة والزراعة والاقتصاد بعقد جلسة خاصة وإقرار تسهيلات للتصدير من لبنان وتأمين الدعم الكامل للمصدّرين. فالوضع لم يعد يحتمل. فكلّ ليرة تستثمر في إزالة العوائق عن الصادرات، يكون دخلها على البلد أضعاف أضعاف.