لعل الشفافية هي اكثر ما يميّز المؤسسة العسكرية منذ توحيدها في مرحلة ما بعد الطائف واندماج عناصر ما كان يسمى بميليشيا الحرب الاهلية في صفوف الجيش. ويذكر ضباط متقاعدون عايشوا تلك الفترة ان الدورة الاولى التي اجريت في المدرسة الحربية حملت اسم "دورة الميليشيات". كما كان هؤلاء الضباط يلفتون نظر المتطوعين الجدد الى ضرورة رمي كل ما كانوا يحملونه قبل دخولهم اي سلك امني من افكار سياسية وعقائد حزبية واهواء وكيفية استعمال السلاح والخبرة العسكرية والقتالية.

وهذه التعليمات التي كانت تعطى لهؤلاء المتطوعين لم تكن تهدف الا الى زرع مفاهيم المؤسسة العسكرية والانتماء للوطن والدفاع عنه وفدائه بالارواح والدماء. وعليه لم يسبق بعد توحيد الجيش حتى اليوم ان ضبط متعاملون مع العدو الاسرائيلي الا في ما ندر وبحالات لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة كما لم يمارس اي من الضباط وقادة الوحدات اي نشاط سياسي وفكري خلال ارتدائهم البزة العسكرية وتوليهم مناصبهم. لكن كثيرين منهم عندما تقاعدوا عادوا الى سيرتهم الاولى والى حضن طوائفهم واحزابهم وعملهم السياسي والفكري وهذا حق مشروع لهم اذا ما انسجم مع ما تسمح به القوانين والدستور والمعتقدات الدينية.

وهي ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها المؤسسة العسكرية الى انتقادات وتشكيك وتطالب بلجان تحقيق عسكرية وقضائية وبرلمانية للوقوف على حقيقة ما جرى. وقد كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن "صفقة ما" او تقصير ورسمت سيناريوهات حول ما حدث في عرسال في الثاني من الجاري قبل وبعد توقيف الارهابي عماد جمعة. وانطلاقاً من الشفافية نفسها التي اعتمدتها وزارة الدفاع وقيادة الجيش منذ مقتل الشيخ احمد عبد الواحد في الكويخات الى حوادث عبرا مروراً باحداث طرابلس، يفترض بهما ان يعتمدا مبدأ الشفافية نفسها. ويذكر ان بعد حادثة مقتل عبد الواحد في الكويخات حرصت قيادة الجيش على وضع الرأي العام في لبنان عبر ممثلي الصحف ووسائل الاعلام وجمعت مديرية المخابرات الاعلاميين وقتها وتحدثت معهم مطولاً في حيثيات الحادثة، وما تلاها من توقيف للضباط والجنود على حاجز الكويخات وإعادة إطلاق سراحهم بعد انتهاء التحقيقات. وكذلك فعلت قيادة الجيش بعد القضاء على عصابة الارهابي احمد الاسير في عبرا و"الطنة والرنة" التي افتعلها "تيار المستقبل" ونوابه وباقي "نواب الامة" من فريق 14 آذار لتنتهي القصة بغسل ايديهم جميعاً منه ومن عصابته عندما استنفد الغرض والاستثمار في حركته الارهابية.

وفي احداث طرابلس وطوال الجولات الـ23 بقي الجيش محل تشكيك من قبل نواب المستقبل وقياداته في الشمال وعاصمته واتهامه بتنفيذ اجندات معادية لـ"ثورة الحليب والبطانيات" التي كان "المستقبل" يقوم بها من لبنان ضد نظام الرئيس بشار الاسد. وتضاءلت مطالبهم من إسقاط جبل محسن الى انتشار الجيش فيه وتسليم قادة "الحزب العربي الديمقراطي" الى القضاء لاتهامهم بتفجير مسجدي طرابلس.

ويعرف قائد الجيش العماد جان قهوجي اليوم وبعد احداث عرسال والتي فقد فيها الجيش كوكبة من ضباطه وجنوده شهداء وجرح كوكبة اخرى منهم وأسر آخرين، ان ما حدث في عرسال ليس كما قبله رغم أوجه التشابه، فليس شخصه المستهدف بل المؤسسة برمتها ولبنان كله. فكل هيبة المؤسسة العسكرية على المحك ولا يجب المساومة بأي شكل من الاشكال وهو يعرف جيداً ايضاً انه المؤتمن على هذه المؤسسة بالرعاية وحماية ابنائه العسكريين قبل ان تكون السلطة السياسية وصية على المؤسسة وعليه. لذلك وكما عودت المؤسسة العسكريين ابناءها قبل اللبنانيين على الثواب والعقاب والمحاسبة بعد إجراء تحقيق مهني وشفاف داخلها، ان تبادر الى وضع النقاط على الحروف وان تحدد مسؤوليات الخلل كي لا تتكرر الاخطاء.

وبهذا التحقيق الشفاف لا تقطع قيادة الجيش الطريق فقط على صيادي الفرص بل انها تصون المؤسسة وتحميها من كل متدخل او محاول لشق صفوفها بفتنة وتحريض او بمداهنة ووعود لبعض الضباط وقادة الالوية والوحدات بمناصب ومكاسب سياسية.

مع إختفاء اصوات النائبين خالد الضاهر ومعين المرعبي المشككة بالجيش ودوره منذ بدء الازمة السورية وبروز مواقف ابو العبد كبارة المتناقضة يخيل للمرء ان الاخير سيسبق المحققين الى ارض عرسال وسيكون اول الذاهبين الى تحرير العسكريين بالسياسة والاعلام والحراك الشعبي.

نعم المؤسسة العسكرية امام امتحان وحيد وهو عودة ابنائها المختطفين مع باقي العناصر الامنية معززين مكرمين من دون قيد او شرط الى اهلهم واحبتهم من دون الرضوخ والاعتراف بعصابات ارهابية، وكل ما دون ذلك ترهات فالتحقيق الداخلي واجب تقوم به كل مؤسسة امنية او غيرها لتحديد المسؤوليات. اما استثمار كل حادثة في بازار سياسي وطائفي ومذهبي ومهرجانات وخطب اعلامية وجماهيرية فلن يجدي نفعاً ولن يغير في حقيقة الامور في شيء واي استحقاق وطني لن يرى النور من دون الإجماع عليه وتأمين الحد الادنى من التوافق فلا حادثة ترجح كفة هذا او حزب او طائفة يرجحان كفة ذاك.