قليلٌ من “التحجّر” الدستوري والتصويب السياسي يُفرِح قلب مسيحيي 14 آذار ويُنقذ موقفهم من طرحٍ لعبته الرابية “صولد وأكبر” لإحراج خصومها المسيحيين وإرباكهم. وكأني بالرابية أرادت من فتيل انتخاب الرئيس من الشعب أن تُبرز أولاً تناقض معراب حيال شعار حكيمها المرشّح (الجمهورية القوية) وردّة فعلها إزاء عملية انتخابية كفيلة بتحقيق هذا الشعار...

صحيحٌ أن الطرح خيالي، وأوّل من يعترف “بيوتوبيّته” ضمنياً هم أبناء التيار البرتقالي الذين ورغم ثقتهم بإحاطة المبادرة دستورياً من كلّ النواحي بحيث لم يُترَك مجالٌ للعيوب والثغرات، إلا أن الرابية تبدو ماضية فيه وكأنها لا تصغي الى الذبذبات الدستورية الاعتراضية. ولكن ماذا لو انتُخِب رئيسٌ من الشعب؟ وهل يخشى بعض المسيحيين هذا الطرح رغم أنه في الواقع وفي مرحلته الأولى مفصّلٌ على قدر طموحاتهم باختيار رئيسهم أياً كان تمثيله البرلماني؟

التسوية أقوى من الطرح

ليست الحكاية بالنسبة الى معراب خشيةً من خيار الشعب، بل إن بيت القصيد يكمن في “التوقيت الخبيث لطرحٍ يطيح الدستور والطائف من أجل مصلحةٍ شخصيّة”. لا يصعّد القواتيون ببساطةٍ كي لا يُفهموا خطأ وكي لا يعكسوا صورة غير الواثق من الشارع المسيحي الذي خرج جعجع في غير مناسبة ليؤكد أنه في صالحه بلا تردّد. كلُّ ما في الأمر أن معراب تتمسّك بخيار النزول الى البرلمان الذي يجلس حكيمها مراقباً إيّاه في كلّ جلسةٍ بلا نتيجة. ربما تكوّنت قناعة بأن حظوظ جعجع معدومة وهي القناعة نفسها التي تتسلّل الى نفوس العونيين لتهمس في آذانهم بأن طرح عمادهم التغييري غير قابل للحياة وأن وصول عون الى بعبدا بتسويةٍ -وإن كان احتمالاً ضعيف الأمل- يبقى أكثر قابليّة للتحقيق من إمكانية تعديل الدستور في هذا الظرف بالذات وما يستتبعه من قلب المعادلات و”تقزيم” الطائف.

الشعب و”الجمهورية القوية”

تؤكد مصادر قوّاتية لـ “​صدى البلد​” أن “معراب ليست خائفة من خيار الشعب ولكن تعديل الدستور ليس نزهة. ففي هذه الدورة قد يكون الرئيس مسيحياً لكن في الدورة المقبلة لا يمكن لأحد أن يضمن ذلك إذا ما غدا التعديل مستساغاً وعرفاً”. وتردف: “الحقيقة أن ميشال عون يرمي مبادراتٍ لا يعرف مدى خطورتها. فهل يعلم خطورة تعديل الدستور في هذا التوقيت بالذات؟ عندما وجد أن حظوظه الرئاسيّة ضعيفة لجأ الى رمي شعاراتٍ كبيرة”. ولكن التوقيت الذي تعتبرونه خطيراً يجده الكثيرون فرصةً ذهبية للمسيحيين لا يمكن اقتناصها لاحقاً لتعزيز موقع الرئاسة مسيحياً؟ تتلقف المصادر: “الجنرال يتسلى في مسألة تعديل الدستور، وكمسيحيين يجب أن نتمسّك أكثر من أي وقتٍ مضى باتفاق الطائف، ورغم أن لدينا كقوات تحفظات كثيرة على هذا الاتفاق وعلى سوء تطبيق بعض بنوده إلا أننا متمسكون به وبالدفاع عنه بشراسة”. ولكن شعار جعجع هو “الجمهورية القوية” وهذه الجمهورية تولد من رحم الشعب. ألا يتناغم طرح عون مع هذا الشعار؟ تعلق المصادر: “الأكيد أن القوات تريد رئيسًا قوياً ولكننا لسنا في صدد حرق البلد ومستقبله فداء الوصول الى كرسي بعبدا. وإذا كان عون يريد انتخابات من الشعب لمَ لا يُرسل نوابه الى المجلس بما أن النواب يمثلون الشعب؟ فإذا فاز “صحتين عقلبو”.

فيمَ تفكر الرابية؟

لو لم تكن الرابية مؤمنة بأن هذا الطرح يُكسبها لما خرجت به الى الملأ حتى لو كان بالون اختبار. فعلى ما يقول مصدر قانوني مطّلع على نصّ الاقتراح “أحدٌ لا يخوض غمار المسّ بثوابت دستورية لو لم يكن واثقاً من قابلية طرحه للحياة أقله دستورياً ومنطقياً إن كانت أسهمه السياسيّة معدومة بلا مناورة. تلك الاستنارة تبدو مطابقة لما تفكّر فيه الرابية هذه الأيام. فمن كواليسها تتسرّب حكاياتُ أمل يزرعها العماد في نفوس ناسه التوّاقين الى وصوله الى قصر بعبدا ولو كانوا على يقينٍ بأن ذلك لا يمكن أن يحصل خارج تسويةٍ تطيح فقاقيع الاختبار والطروح المطاطية الجدلية وتستولد قبولاً وميثاقية من كلّ الطوائف ورضىً من كلّ الكتل أو من غالبيتها.

جعجع لا يمرّ

ذريعة التيار واضحة: إعادة القوّة الى ربوع الرئاسة الأولى. ذريعة تجعله يتمسّك بطرحٍ سلك طريقه الى المجلس النيابي في غمرة اعتراضاتٍ أقلها حدّة يصفه “بالانقلاب الصريح على الثوابت الميثاقية”. كلّ تلك الاعتراضات تضعها مصادر الرابية في “خانة الخشية من خيار الشعب لأن جعجع نفسه يعلم أن حظوظه في الوصول الى بعبدا ميتة أصلاً سواء في مسرحية المجلس التي تستكمل فصولها بين فترةٍ وأخرى أو حتى عبر اختيار الشعب. فهو وإن نجح في المرحلة الأولى لن يمرّ في المرحلة الثانية بأيّ ثمن وهو خير العارفين بأن ليس لديه قبولٌ لدى الطوائف الأخرى حتى في شارع حلفائه السنّة، وبالتالي طرحٌ مماثل يضرّه ولا يفيده، وطالما أنه قادرٌ على تلميع صورته بالاستمرار في ترشّحه الطبيعي في وجه هنري حلو في جلساتٍ لا يتأمّن نصابها، لا حاجة الى خسارة ورقة التصويب على المعرقلين والمقصود بهم عون ومغازلة بكركي ومشاطرتها الرأي في هذا المجال”.

لا يحقّ للذائب أن يتكلم...

بعيداً من معراب، يقارب الكتائبيّون الطرح بحذرٍ أقرب الى الصمت الكفيل بعدم فتح جبهة على التيار الوطني، حليفهم الحكومي مكتفين بالإشارة الى تبدّل الظروف بين الأمس واليوم. وأمام التردّد الكتائبي الراكن الى نظرياتٍ دستورية غير توريطية، تبدو الحجّة الأقوى في أيدي مسيحيي 14 آذار المستقلين والمتفرّقين الضرب على وتر الانتخاب بقوّة السلاح في المرحلة الثانية وبالتالي بناء رفضهم لخيار الشعب ومهاجمته على عدم “الوثوق بحريّة خيار الشارع الشيعي”. وإذا كان السؤال الأبرز الذي يطرحه هؤلاء يتعلق بتوقيت الطرح الذي خرج به عون “بعدما علم بأن الحريري تخلى عن ترشيحه وأن وصوله الى القصر بات صعباً”، فإن الردّ العوني يبدو قاسياً هو الآخر: “كلُّ واعٍ حرٍ غير ذائبٍ في أكثرية تبتلعه وتؤمّن وصوله الى البرلمان ولولاها لا يحوز سوى عشرات الأصوات يعلم أن انسداد الأفق الرئاسي هو الذي يدفع الى إنتاج مبادراتٍ من هذا القبيل. ومن لديه فكرة أفضل فليتفضل ويعرضها”.

في لغة الماكينات

في النتيجة، لا يمكن للماكينات الانتخابية أن تحرق جهودها ووقتها لدرس طرحٍ فرضيٍّ أقرب الى الخيال -رغم منطقيّته- منه الى الواقع. ومع ذلك لا ينفكّ الكثيرون من كلّ الجهات يطرحون السؤال على فرضيّته: ماذا لو انتخب الشعب؟ بالنسبة الى عون الأمور محسومة في كلتا المرحلتين: في الأولى بوفاءٍ مسيحي ينام على أمجاده منذ ما قبل عودته، وفي الثانية بدعمٍ شامل يتصدّره التصويت الشيعي. أما بالنسبة الى جعجع فالشارع المسيحي في صالحه بأكثر من النصف وليت الأمور تنتهي هنا...