في الشكل، بدا المؤتمر الصحافي الأخير لوزير الخارجية السورية ​وليد المعلم​ "صادمًا" و"صاعقًا" للكثيرين من المؤيّدين قبل الخصوم، فرئيس الدبلوماسية السورية توجّه بـ"رسائل ودّ" إلى دولٍ لطالما اعتبرتها بلاده "أصل البلاء" في ما تصفها بـ"الحرب الكونية" أو "المؤامرة" التي تُشَنّ عليها، وهي رسائل لم تكن لتنزل لا برداً ولا سلاماً على هؤلاء.

وفي الشكل أيضًا، بدا فاقعًا "التغيير" في اللهجة بين الأمس واليوم، فالمعلم دعا للتعاون والتنسيق مع من كان يصفهم قبل أشهر قليلة بـ"المتآمرين" و"المتورّطين" في مخطط تدمير سوريا، وذلك للمفارقة بالتزامن مع ذكرى مرور عام على تهديدات هؤلاء بـ"ضربة عسكرية" ضدّ سوريا، التهديدات التي بقيت حبرًا على ورق.

لـ"داعش" إيجابيات!

وإذا كانت هذه المؤشرات "الشكلية" تعطي انطباعاتٍ "ضبابية" حول الموقف السوري، فإنّ "المضمون" كفيلٌ بإيضاح ما يمكن وصفه بـ"التحوّل" ليس في موقف القيادة السورية فحسب، بل في المقاربة العالمية للمستجدّات والتطورات في المنطقة، ذلك أنّ زمن ما يُسمّى بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" لا يمكن أن يُقارَن بأيّ زمنٍ آخر، وبالتالي فإنّ "ما بعد داعش" لا يمكن أن يكون مثله مثل "ما قبل داعش".

من هنا، قد يقول قائل أنّ لـ"داعش" إيجابيات رغم كلّ شيء، ولعلّها تتمثل في أنها استطاعت "توحيد" الجبهات المتصارعة في زمن "الانقسامات"، بحيث بات "أعداء" الأمس "أصدقاء" ولو بالإكراه، وذلك لأنّ الخطر الذي تمثله "داعش" عليهم هو خطرٌ وجوديٌ بكلّ ما للكلمة من معنى، خطر يُجمِع كلّ المراقبين على استحالة "مواجهته" من دون التضامن في الحدّ الأدنى.

قرار تاريخي ومرحلة جديدة

لم تعد المسألة تتعلق إذًا بنظامٍ سياسي "يحتضر" وآخر "يتحدى" ولا بحقوقٍ بديهية لشعبٍ معيّن بالإصلاح والمشاركة. باتت "المؤامرة" أكبر وأخطر، وتجلياتها أكثر من واضحة، لدرجة أنّ الرافضين التقليديين لنظرية "المؤامرة" أصبحوا من أوائل المنادين بها، بل المنظّرين في تفاصيلها وحيثياتها.

هي مرحلة جديدة بكلّ ما للكلمة من معنى أطلقها قرار مجلس الأمن الدولي حامل الرقم 2170، وهو القرار الذي وُصِف بـ"التاريخي" في مجال مكافحة الإرهاب على الصعيدين الإقليمي والدولي، مرحلة سارعت سوريا لتلقفها من خلال مؤتمر المعلم الذي حاول التمهيد لـ"كسر العزلة السورية"، بل فرض دمشق كمركزٍ لما سُمّي بالتحالف والائتلاف الدولي الجديد. وبهذا المنطق، أرادت سوريا أن تقول لكلّ من يعنيهم الأمر أنّ أيّ حربٍ على الإرهاب لا يمكن أن تستثنيها، بل إنّ طريقها لا بدّ أن تمرّ عبرها، شاء من شاء وأبى من أبى.

"الضحية الأولى"..

سوريا قالت كلمتها إذًا، ولكن كيف سيقابلها الآخرون؟ هل يمكن لعرّابي "الثورة" ملاقاتها في منتصف الطريق؟ وماذا سيكون موقف من أعلنوا "القطيعة" مع النظام بل "دفنوه" مسبقاً؟ وحتى لو وُجِدت كلّ "الظروف الموضوعية" الملائمة لمثل هذا السيناريو، هل من "مَخرجٍ" ملائم له؟

تبدو الإجابة الأكثر منطقية إزاء ذلك أنّ الخطر "الداعشي" أكبر من كلّ هذه التفاصيل، التي قد تبدو للبعض "تافهة". أكثر من ذلك، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ "الثورة"، رغم "الالتباس" المحيط بهذه العبارة أصلاً، هي "الضحية" الأولى والأكبر لـ"الدولة الإسلامية". وإذا كان الكثيرون رسموا علامات الاستفهام حول مفهوم هذه "الثورة" وأساساتها، فإنّ دخول "داعش" على خطها كان كفيلاً بـ"إجهاضها في مهدها"، بل جعل المتعاطفين معها يعيدون حساباتهم في أقلّ تقدير.

ومع ذلك، لا يزال أمر تشكيل مثل هذا "الائتلاف" مشوبًا بالكثير من الحذر والمخاطر، وهو الأمر الذي أحاطت به ردود الفعل الدولية الأولية. لاذت الغالبية العُظمى بالصمت، ربما خوفًا من تداعيات أيّ كلام في ظلّ السيناريوهات المتناقضة التي يبدو أحلاها مرًّا خصوصًا لمن لم يحفظ "خط الرجعة". وحدها الولايات المتحدة الأميركية لم تتردّد في إبراز "تردّدها" بقولها أنّ الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يتخذ قراره بعد بشأن احتمال توجيه ضربات للتنظيمات الإرهابية في سوريا.

الحرب على الإرهاب بنسخة جديدة

وسط كلّ ذلك، تبقى الأنظار متجهة نحو دول تحوم حولها أصابع الاتهام بدعم وتمويل هذه الاتهامات. البعض يقول أنّ رعاية هذه الدول للإرهاب مستمرّة، فيما يرى البعض الآخر أن القصة خرجت عن سيطرتها، وينطلق أصحاب هذه النظرية من كون هذه الدول هي من أنشأت وربّت هذه التنظيمات لأهدافٍ آنية محدّدة مرتبطة بالصراعات الإقليمية، لكنّ "الغول" كبر وتمدّد وتوسّع. وإذا كانت هذه النظرية دقيقة، فإنها تعني أنّ هذه الدول يجب أن تكون الأحرص على الدخول في أيّ تحالفٍ دوليٍ مهما كانت "الأثمان السياسية" لأنّ الخطر سيطالها أولاً، وقبل غيرها.

باختصار، هي النسخة الدولية الجديدة من الحرب على الإرهاب، نسخة من شأنها تغيير كلّ المعادلات وتجميد كلّ الاستحقاقات. هي نسخة لن يُكتَب لها النجاح ما لم يتوحّد "أعداء" الأمس في جبهةٍ واحدة متراصة، نسخة تقف فيها سوريا جنباً إلى جنب الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، طاوية صفحة من العداء الذي كاد يكون قاتلاً ومدمّرًا. هي نسخة يجب أن تولّي معها كلّ شعارات الأمس المتطرّفة ليحلّ مكانها شعارٌ واحدٌ موحّدٌ: نبذ الإرهاب أولاً، وبعدها، لكلّ حادثٍ حديث...