كشفت الفحوصات التي أجرتها جمعية حماية المستهلك في لبنان واتحاد بلديات الضاحية عن وجود تلوّث كبير في المياه التي تضخ بواسطة الشبكات العامة إلى المنازل. التلوّث يسبب «التهاب الكبد الوبائي» ويترك آثاراً كبيرة في الجسم البشري بسبب وجود معادن من نوع الزئبق والزرنيخ والملوحة العالية.... التلوّث سببه التعديات على الشبكة واختلاطها بمياه المجارير

مياه الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت ملوّثة بأنواع من البكتيريا قد تسبب «التهاب الكبد الوبائي». هذه النتيجة تكررّت في أكثر من فحص أجرته جمعية حماية المستهلك وبلدية الغبيري في أحياء مختلفة من هذه المنطقة. الفحوصات أظهرت أن مصادر المياه، أي الينابيع والآبار، «نظيفة»، لكن شبكات التوزيع فيها مستويات خطيرة من الملوحة والبكتيريا المسببة للتسمم الكبدي والأمراض الوبائية السريعة الانتشار. سبب التلوّث غير واضح المعالم، لكن ما ظهر منه هو أن الشبكات تختلط بمياه المجارير، سواء كان الأمر ناتجاً من تعديات على شبكة التوزيع أو عن إهمال في معالجة المياه وتكريرها من خزانات التجميع إلى المنازل.

نتائج مقلقة

على مدى اثني عشر شهراً مضت، أجرت جمعية حماية المستهلك فحوصات دورية على مصادر المياه في كل لبنان. ما ظهر في الضاحية الجنوبية كشف عن مخاطر تستدعي تحرّكاً سريعاً من قبل المعنيين. وبحسب رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو، فإن الفحوصات أظهرت بوضوح «أن المشكلة الأساسية هي في الضاحية الجنوبية. إذ تبيّن وجود سلسلة مشاكل صحية يسببها هذا التلوّث، سواء التهاب الكبد الوبائي وغيره من الأمراض التي لا تنتج إلا من اختلاط المياه العامة التي تضخّها الدولة إلى المنازل بمياه المجارير». وأوضح أن الجمعية طلبت «إبلاغ وزارة الصحة العامة بوجود هذه الأمراض نظراً إلى سهولة انتشارها».

وتشير مسؤولة قسم المراقبة وسلامة الغذاء في الجمعية ندى نعمة إلى أنها استخرجت 23 عيّنة من المياه التي تضخها الدولة إلى المنازل في منطقة الضاحية الجنوبية، وقد تبيّن من الفحوصات المتكررة أن جميعها ملوّثة. أُخذت العينات من مناطق: الغبيري، الشياح، الشويفات، التيرو، حي السلّم، عين الدلبة، برج البراجنة، صفير وبئر العبد، وأخضعت لنوعين من الفحوصات: الفحص الجرثومي والفحص الكيميائي. نتائج الفحوصات الجرثومية أظهرت وجود بكتيريا مسببة للأمراض المعوية مثل «الأحياء القولونية البرازية، الأحياء القولونية الإجمالية وأشريشيا إيكولاي». وتؤكد نعمة أن وجود هذه الأنواع من البكتيريا «هو دليل على التلوّث الناتج من اختلاط مياه الصرف الصحي بمياه المجارير». أما الفحوصات الكيميائية على العينات، فقد كشفت عن وجود «مواد خطيرة جداً على الاستهلاك البشري مثل الزئبق والزرنيخ، فضلاً عن مستويات مرتفعة من الملوحة في المياه بنسبة تزيد 30 ضعفاً و40 ضعفاً على المعدلات المقبولة، ومستويات مرتفعة من الصوديوم أيضاً تجعل مياه الدولة مماثلة لمياه البحر. وتؤكد نعمة أن وجود الزئبق والزرنيخ يدلّ على وجود ملوّثات صناعية وخصوصاً زيوت السيارات والمخلفات الصناعية، إذ إن هذه المعادن الصناعية مضرّة جداً بالإنسان» وفق نعمة.

مصادر المياه في الضاحية

«كل المياه في الضاحية موبوءة» يقول رئيس اتحاد بلديات الضاحية محمد الخنسا. هذه النتيجة مصدرها فحوصات ثانية أجراها اتحاد بلديات الضاحية بعدما تبلّغ الخنسا من جمعية حماية المستهلك النتائج التي توصلت إليها. عند هذه النقطة «كان لا بدّ من تأكيد النتائج التي تفسّر ظهور حالات تسمم كبدي في بعض مستوصفات المنطقة، فأجرينا فحوصات إضافية في مناطق متعددة من الضاحية أظهرت أن التلوّث هو أمر واقع، وأنه أصبح خطيراً جداً على السلامة العامة».

إذاً، ما هو مصدر التلوّث؟ ليس لدى الخنسا إجابة قطعية عن هذا الأمر «لأننا راسلنا وزارة الطاقة والمياه والجهات المعنية بهذا الأمر من أجل وضع يدها على الملف وإجراء التحقيقات اللازمة التي ستؤكد لنا سلامة الينابيع والآبار وشبكات التوزيع أو تلوّث أي منها، ولا نزال ننتظر إجابة عن مراسلاتنا التي كانت واضحة لجهة حجم الخطورة والآثار السلبية التي يتركها استمرار الوضع القائم على صحة أكثر من 700 ألف نسمة مقيمين في الضاحية».

غير أن مصدر المشكلة واضح بالنسبة إلى جمعية المستهلك. فالكشف الذي أجرته الجمعية على مدى الأشهر الماضية أظهر أن هناك بعض خزانات التجميع فيها ملوّثات جرثومية، وأن هناك تعديات كبيرة على شبكة التوزيع تؤدي إلى تسرّب مياه المجارير إليها، رغم أن اتحاد بلديات الضاحية كان قد جدّد قسماً من هذه الشبكات. وشبكات التوزيع ليست وحدها شبكات نقل المياه بالقساطل، بل هي أيضاً مراكز تجميع المياه بعد ضخّها من الآبار. وبحسب برّو، فإن «شبكات التوزيع هي مصدر التلوّث لأن مصادر المياه، أي الينابيع والآبار، التي تغذي هذه الشبكة نظيفة».

تجارة المياه

إزاء هذا الواقع، اقترحت جمعية حماية المستهلك أن يكون العلاج الجذري لهذه المشكلة في تجديد شبكات المياه وإزالة التعديات عنها. فالمشكلة باتت واضحة لجهة «وجود تشابك في مشكلتي الشحّ والتلوّث. ومن الواضح أن هناك تقنيناً للمياه غير مبرّر، فيما هناك الكثير من شركات المياه المكرّرة تحصل على المياه من الشبكات العامة، أي تسرقها، سواء بالقوة أو بالتواطؤ مع بعض الموظفين فتحرم الناس من حصتها في المياه وتجبرها على شراء المياه بأسعار خيالية» يقول برو. وتضيف بعض المعطيات التي استحصلت عليها الجمعية إن عمليات تكرير المياه لدى مؤسسات المياه ليست دورية وليست واضحة، فيما تكرير المياه لدى التجار والدكاكين لا يخضع لأي رقابة فعلية، وهي مياه تدخل إلى كل منزل وتصيب كل مقيم في الضاحية، سواء لجهة استعمال المياه للخدمة في المنزل أو لغسل الخضر والمأكولات، أو للشرب.

كذلك، عقد أكثر من لقاء بين المسؤولين عن نوعية وجودة المياه في وزارة الطاقة والمياه وبين جمعية المستهلك، إلا أن هذه اللقاءات لم تنتج أكثر من «تشكيك» و«ذهول» بوجود التلوّث «فمن الواضح أنه ليس هناك أي تنسيق بين وزارة الطاقة والمياه وبين الجهات الأخرى المعنية بهذا الموضوع، رغم وجود تراكمات كبيرة تستدعي معالجات واسعة، وخصوصاً أن هناك نقصاً في المتساقطات وطلباً إضافياً على المياه ناجماً عن وجود سوريين نازحين مقيمين في الضاحية».

هكذا يبدو واضحاً أن أبناء الضاحية محاصرون بالتلوّث: تتم سرقة المياه من بعضهم البعض وتلويثها ثم بيعها لبعضهم البعض.