بصرف النظر عن الأحلاف الدولية والإقليمية لضرب "داعش"، نبقى في الداخل اللبناني، لأن ما يحصل في عرسال وما سيحصل محسوب منذ تدفّق مئات آلاف النازحين إلى لبنان بمباركة من زايَدوا على "الأخوة" من 14 آذار، ومحسوب منذ تمّ حظر دخول الجيش إلى عرسال وجرودها، ومنذ القصير وما تلاها من معارك القلمون وسقوط يبرود والنبك ورنكوس وسواها، والهدف كان تشريع الحدود للإرهابيين المنكفئين الهاربين من الجيش السوري إلى الجهة الغربية من السلسلة الجبلية الفاصلة بين سورية ولبنان، فأُعدّت عرسال لتكون الحاضنة السياسية والاجتماعية والعسكرية الدافئة لفلولهم، ومركز عمليات لا ينفصل عن الأراضي الخارجية للمناوئين للنظام السوري، ليس لمحاربته فقط، بل لإزالة الحدود بين لبنان وسورية ضمن الدولة الموعودة لـ"الخلافة"، وما الحشود الإرهابية التي ما زالت في جرود عرسال بوضع قتالي عالي التأهُّب، وتسلُّل المسلحين الغرباء إلى داخل البلدة، سوى استعداد لتجربة أخرى في عرسال، ومن بعدها نحو الجرود المشرفة على قرى وبلدات البقاع الشمالي، مع وجود محاولات للتواصل مع مجموعات دعم متواجدة كخلايا في المناطق المحاذية للحدود السورية في البقاعيْن الأوسط والغربي، لمقارعة الجيش والمقاومة، ولإشعال الفتنة الكبرى.

وإذا كان تدفُّق الإرهابيين من سورية إلى الجهة اللبنانية حيث جرود عرسال، متوقَّعاً، فإن المتوقَّع أيضاً أن العين الساهرة لـ"المعادلة الذهبية" لديها خطوطها الحُمُر في لبنان، وإذا كانت "العين الحمراء" لم تفتح بالكامل بعد على من استقدم نازحين إلى مخيمات القنابل الموقوتة في عرسال وسواها، فلأن الأبرياء من أبناء عرسال يستحقّون الروية والحكمة في المعالجة، بحيث لا يذهب الصالح بجريرة "الطالح" وليس أكثر، ونُطمئن قائد "القوات" سمير جعجع الذي أقرّ أخيراً بوجود "داعش" وهدّد بجعل لبنان مقبرة لها، أن اللبنانيين يدركون من يحفر المقابر للمعتدين على لبنان، سواء جاءوا من الجنوب أو من الشرق، وسواء كانوا عنصريين صهاينة أو شياطين تكفير.

وبصرف النظر عن الرابط بين مبلغ الخمسة عشر مليون دولار التي دفعها الرئيس الحريري لرئيس بلدية عرسال علي الحجيري، وبين مبلغ المليار دولار الذي حمله كهبة سعودية للجيش اللبناني، شرط أن تُصرف بإشرافه شخصياً، لا نرغب حالياً الذهاب بعيداً في الظن مع بعض وكالات الأنباء التي أوردت أن هبة المليار دولار تتصل بإطلاق ابن رئيس جهاز مخابرات خليجي موقوف بتهمة التمويل الدوري للإرهابيين في جرود عرسال، وأن القبض عليه وتوقيفه هو الذي دفع بالإرهابي عماد جمعة للتوجُّه إلى مركز الجيش في عرسال، وهدّد بإحراقه بمن فيه إذا لم يطلَق سراح المموِّل الخليجي، فكان توقيف جمعة، وكان الهجوم الغادر الذي أدى إلى استشهاد عسكريين وأسْر عدد منهم.

إننا إذ تطرقنا لخبر المليار دولار وما ورد في الوكالات عن تسوية لإطلاق سراح المموّل الخليجي ومواكبته بطائرة خاصة إلى بلاده، فإننا لا نتبنى هذا الخبر ولا يمكننا نفيه، لأن الأهم هو مبلغ الخمسة عشر مليوناً الذي دُفع لعلي الحجيري لترميم منشآت في عرسال دمّرتها المعارك، إضافة الى "الحصانة" التي يتمتع بها رئيس بلدية مطلوب للعدالة، ولديه حرية التنقُّل وزيارة بيت الوسط ومجالسة الحريري، في ما يبدو أن عرسال ما زالت وستبقى مركز مماحكات خطيرة، بانتظار جلاء الوضع السوري، وأن إقامة الإرهابيين في جرود عرسال ستطول بمقدار الدور المطلوب أن يلعبه البعض من أبناء عرسال، وبمقدار الهبة السخية التي تقاضاها علي الحجيري.

ومع اندثار دور نواب "تيار المستقبل" وتوابعهم من جماعة "14 آذار" لصالح "هيئة علماء المسلمين" في معالجة أي موضوع يتصل بعرسال، أو بأي نزاع بين البعض في الشارع السُّني والجيش الوطني، فإن هذه "الهيئة" وإن فشلت في محاولاتها التفاوضية لإطلاق العسكريين الأسرى، وأوقفت مساعيها بانتظار قوى إقليمية تكون أكثر قوة في الحضور، وقدرة على دفع "الفدية" المطلوبة، فلا بد من جهة أخرى أن نسأل "المستقبل" قيادةً ونواباً عن موطىء قدم لهم في الشارع السُّني بعد اليوم، وسط نشاط هيئة العلماء كبديل عن الممثلين المنتخَبين، وردود الفعل السلبية العاتبة على الغيبة الطويلة للحريري في الشارع الحائر؛ من طريق الجديدة إلى صيدا مروراً بالبقاع الغربي ووصولاً إلى طرابلس وعكار، والإهمال الحاصل في التعاطي مع الجماهير المحسوبة على "المستقبل"، والتي علت صرخاتها في وجهه عبر وسائل الإعلام.

وإذا كان تعثُّر العودة عبر مطار دمشق هزيمة إقليمية للبنانيين الداعمين لما يسمى بـ"المعارضة السورية" أمام صمود النظام، وأمام "دواعش" التكفير التي بقي بعض جماعة "14 آذار" حتى الأمس ينكرون وجودها، فإن العودة عبر معابر عرسال إلى قلوب أهل السُّنة تبدو صعبة، وإلى قلوب اللبنانيين مستحيلة، والعين الساهرة لـ"المعادلة الذهبية" ستغدو حمراء أكثر على من ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شوكة في عيون الوطن، ووطّنوا "داعش" في جرود عرسال إلى أجل غير مسمى، وخسروا المعركة بمواجهة إرهابيين وتحطمت رهاناتهم، ولم تبق لهم شوارع جماهيرية، ولا بقي لهم وطن أرادوه على قياس مغامراتهم الانتحارية ورؤيتهم الضيقة.