قبل ثلاث سنوات؛ في تشرين الأول 2011، أخرج الليبيون زعيمهم السابق من أحد المجارير، بعدما قصفته طائرات "الناتو"، خصوصاً الفرنسية، وتمّ قتله لإخفاء الأسرار التي يمتلكها القذافي، حتى لا تنكشف عورة الغرب، وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي ساركوزي، الذي خاف فضيحة تمويل القذافي لحملته الانتخابية.

التاريخ يعيد نفسه؛ فالعميل يقتله سيده ولا ينفعه التقرُّب والتودّد بالمال والهدايا، أو تنفيذ مؤامراته ومخططاته لقهر الشعوب واستباحة الأوطان وهدر الثروات.. أعطى القذافي التعويضات عن طائرة لوكربي، وفكك أسلحته النووية المفترضة وسلّمها لأميركا، وأعطى ساركوزي رشوة انتخابية، واغتال بعض القادة الفلسطينيين واختطف الإمام الصدر ورفيقيْه، وشارك في الحرب الأهلية اللبنانية، وهاجم تشاد.. لم يترك شيئاً موبقاً إلا فعله، سواء على مستوى السلوك أو السياسة، وتمّ قتله مسحولاً يستجدي قاتليه ويذكّرهم بأنه "أبوهم"، ونسي أنه "فرعونهم" وجلادهم الذي قتلهم وسجنهم، ومجزرة سجن "أبو سليم" نموذج لعطاءات القذافي في ليبيا.

لكن هل استطاع الليبيون بناء دولتهم بعد القذافي، أو أن الغرب وبعض العرب صادروا ليبيا ويعملون على تخريبها؟ وهل "الربيع العربي" حقيقة أم خرافة، أو قناع لمخطط أميركي لتخريب الدول وعدم بناء دول جديدة إلا عبر التقسيم أو الفيديرالية أو الفوضى؟

تأتي ليبيا في مقدمة البلاد المستباحة والمحترقة، فبعد أربعين عاماً من اسبتاحة القذافي وعائلته للبلاد وما عليها وما فيها، جاءت الحلقة الثانية من الفوضى والاستباحة، وصارت ليبيا في فك التمساح الأميركي وبعض مشايخ قطر والإمارات، ولم يعد للشعب الليبي إلا المعارك والميليشيات والقتل المستمر منذ ثلاث سنوات، والمستقبل لا يبشّر بالخير بل بالمآسي.

ليبيا إحدى ضحايا ما يسمى "الربيع العربي"؛ قتلت فرعونها واستولدت "فراعنة" من الميليشيات المتعددة الانتماء القبلي، والمتعددة الولاء للخارج، وتتعرض للقرصنة الاستعمارية العربية، ولطموحات مشايخ النفط في الخليج، الذين يحاولون فرض زعاماتهم وطموحاتهم المشبوهة على الأمة.

يتعامل الغرب مع ليبيا كـ"بئر نفط" وليست ككيان مستقل أو كشعب له الحق في تقرير المصير.. إنها النموذج الصومالي الجديد؛ بلا مؤسسات أو جيش أو سلطة، بل هي جغرافيا للميلشيات المتصارعة بلا أفق، وفق منهجية الانتحار الذاتي الذي يؤدي إلى التقسيم أو الفوضى الشاملة والخراب، لاستدعاء التدخُّل الخارجي لاستعمار ليبيا من جديد، كما يحصل الآن في العراق، حيث يظهر الأميركي "المحتل" كمخلّص ومنقذ للشعب من براثن "داعش" التكفيريين، والسؤال الذي يطرق أبواب القضية الليبية بحثاً عن أجوبة واضحة لحل بعض الألغاز غير المفهومة حتى الآن:

- لماذا لم يحاكَم سيف الإسلام القذافي أو يُقتل، ويتمتع بحماية وحصانة داخلية وخارجية؟

- لماذا يُحتفظ بأركان النظام السابق الأساسي دون إعدام؟

- ما هو دور الجنرال حفتر في بناء مستقبل ليبيا الجديد، وما مدى إمكانية التحالف بين حفتر وسيف الإسلام القذافي، برعاية غربية - عربية تحت عنوان مقاتلة التكفيريين في ليبيا، كما يحدث الآن بمواجهة "داعش"، على الأقل إعلامياً وظاهرياً؟

- هل سيتمّ الإبقاء على ليبيا كبؤرة توتر وقاعدة لتجمع الإرهابيين التكفيريين لزعزعة الاستقرار في الشمال الأفريقي (الجزائر وتونس والمغرب..) لفتح الأبواب لقيام القاعدة الأميركية في أفريقيا، كما هي القواعد الأميركية في الخليج، لإقفال الطريق أمام روسيا وحلفائها، وللإمساك بالنفط والمضائق والغاز، سعياً للتوازن مع الصين العملاق الاقتصادي العالمي، وإجراء المقايضة بين موارد الطاقة والديون والتجارة مع الصين وروسيا، ووضع اليد على أفريقيا؟

الأسئلة كثيرة، وبعض إجاباتها عند الشعب الليبي وقياداته، التي يجب أن تبادر للوحدة وإطفاء النار حتى لا تستيقظ على ليبيا المقسَّمة والمستباحة.

"الربيع العربي" بدأ بإنتاج وصناعة الكيانات المقسَّمة، وإحراقها وإغراقها بالفوضى عبر البندقية التكفيرية والمال النفطي والفتاوى المهجَّنة، والجميع تحت الخطر والتهديد، ولا يطمئنّنّ أحد بأن النار بعيدة عن داره، فربما يستيقظ والنازح المدني يتحوّل تحت شباكه إلى قاتل من "داعش" أو "النصرة" ليسبي زوجته وبناته ويحتل داره.. ولا من مجير أو مدافع سوى بيانات الاستنكار، أو الفرار إلى الجبال والصحارى.