لم تسلك مبادرة "التيار الوطني الحر" بشأن ​الانتخابات الرئاسية​ طريقها بعد، رغم مرور أسبوع على إطلاقها رسميًا، إذ بدا أنّ أحدًا لا يريد تلقفها، فبقيت الأجواء "سلبية" عند الخصوم و"ملبّدة" في أحسن الأحوال عند الحلفاء وحلفاء الحلفاء.

وإذا كانت الآلية المؤسساتية للتعامل مع الاقتراح مؤجلة حتى فتح دورة عادية للمجلس النيابي في تشرين الأول المقبل، فإنّ الحكم على المبادرة أتى سريعًا بـ"دفنها في مهدها"، على الطريقة "الداعشية". حتى من أقرّ، مُكرهًا، بأنّ مبدأها "رائد"، تذرّع بالتوقيت "الخبيث" والنوايا "المبيتة" ليطوي صفحتها، وكأنها لم تكن.

المشكلة في التوقيت!

اختلفت دوافع "المعارضين" إذًا وبقيت النتيجة واحدة. بعضهم أقرّ بـ"ريادة" فكرة انتخاب الرئيس من الشعب، كيف لا وهي أساس نظام دولٍ عُظمى يتغنى الجميع بديمقراطيتها، بل إنها معتمَدة في دولٍ لا يتردّد البعض بوصفها بـ"الديكتاتورية". كلّ المَحاور متفقة على هذه النقطة، فموالو الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال لا يزالون يتغنون حتى يومنا هذا بالنموذج المثالي الذي أظهرته واشنطن للعالم في انتخاباتها الأخيرة، والتي فاز باراك أوباما بولايةٍ ثانيةٍ بموجبها، وفي المقابل لا يزال موالو سوريا وإيران يحاضرون بـ"الأعراس الديمقراطية" التي شهدتها الانتخابات الرئاسية في كلّ من البلدين والتي أفرزت وصول حسن روحاني إلى سدّة الرئاسة في الجمهورية الإسلامية وبقاء بشار الأسد على رأس الجمهورية العربية السورية.

الفكرة رائدة وخلاقة، يقول الجميع، إلا أنهم يضيفون إلى هذه العبارة ثابتة "ولكن"، وهنا يكمن بيت القصيد. المشكلة هي في التوقيت، يقول البعض، فالاقتراح تأخر 25 سنة عن موعده بحسب رئيس حزب "الكتائب" ​أمين الجميل​، وباتت نتائجه "مدمّرة"، وهو يأتي كعملية رش الرماد في العيون لرفع سعر بعض المرشحين على حدّ تعبير رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، الذي يجزم أنّ الوقت ليس ملائمًا لطرحه في ظلّ "تعطيل الانتخابات الرئاسية". ويستفيض "المستقبليون" في هذه النقطة، باعتبار أنّ مثل هذا الاقتراح بحاجة لنقاش مستفيض وهادئ "عندما تكون الظروف ملائمة"، كما جاء في بيان لكتلة "المستقبل" دقّ جرس الإنذار من وجود اتجاه في خفايا الاقتراح لـ"تعديل النظام اللبناني برمته".

هذا هو الخط الأحمر..

يستهجن مؤيّدو الاقتراح كلّ هذه "الذرائع"، كما يصفونها. هم يعتبرون أنّها تصلح لتبرير ضرورة السير بتبنّي الاقتراح على عجل، لا وضعه في جوارير المجلس النيابي ونسيانه. يقولون أنّ المنطق الذي يقوم عليه تحليل البعض "غريب عجيب"، فإذا كانوا يقرّون بأنّ الانتخابات الرئاسية معطّلة، وإذا كانوا يتباكون ليل نهار على الفراغ القاتل ويعجزون عن سدّه بشتى الوسائل، فهذا يعني قبل أيّ شيء أنّ هناك خللاً فعليًا في النظام، خللٌ يستوجب معالجته فورًا بطريقةٍ عمليةٍ تتخطى منطق البكاء على الأطلال.

يعتبر هؤلاء أنّ الخط الأحمر الوحيد يجب أن يكون الرئاسة بحدّ ذاتها. يستغربون كيف يسكت الأفرقاء اللبنانيون عن الفراغ المسيطر على الموقع الماروني الأهمّ في لبنان، في عزّ "المؤامرة" التي تستهدف المنطقة كلّها، والمسيحيون جزءٌ أساسيٌ منها. ولأنّ النظام يجب أن يكون في خدمة المواطن لا أن يقيّده، يتساءلون إلى متى سنسكت عن كلّ مظاهر الخلل التي باتت واضحة وجلية لا لشيء سوى لأنّ هذا النظام خط أحمر لا يجوز المساس به، ولو بقي الفراغ إلى أبد الآبدين.

من هنا، يشدّد المؤيدون على أنّ تعديل آلية انتخاب الرئيس يجب أن تكون خطوة أولى في مشوار الألف ميل لتصحيح النظام، خطوة لا بدّ منها لضمان وجود رئيسٍ في سدّة المسؤولية في كلّ الأزمنة، كما لوقف الارتهان لدولةٍ من هنا وهناك، ولحصر القرار الأول والأخير بيد الشعب اللبناني ليصبح هو سيّد السلطات كلّها فعلاً وقولاً.

مذهبة مقوننة؟!

لا شكّ إذًا أنّ الاقتراح جديرٌ بالبحث، بل إنّ هناك الكثير من الملاحظات التي تستحق النقاش، ومنها على سبيل المثال لا الحصر جدلية "مذهبة" الاقتراح و"تطييفه" من خلال حصر دورته الأولى بطائفةٍ واحدةٍ دون غيرها. قد يقول قائل أنّ مغزى هذا التفصيل هو صدّ النظرية القائلة بانتخاب الرئيس المسيحي بأصوات غير المسيحيين، نظرًا لغياب التوازن في الداخل اللبناني ما قد يقضي على مبدأ "المناصفة". وبالتالي، قد يكون لها "حساسيتها" التي تبرّرها، إلا أنّ "قوننتها" بهذا الشكل قد تتطلب إعادة النظر بالاقتراح ككلّ، إذ من غير "الحضاري" أن تُفتَح صناديق الاقتراع في القرن الواحد والعشرين لشريحةٍ واحدةٍ من الشعب وإقفالها أمام أخرى، ولو كان لهؤلاء دورٌ في الدورة الثانية.

من هذه "الإشكالية"، ينطلق بعض المعارضين ليتهموا "التيار" بمحاولة "شدّ العصب المسيحي" من خلال هذا الاقتراح، اتهامٌ يردّ عليه المؤيّدون بالحديث عن "خصوصيةٍ لبنانيةٍ" لا يمكن تجاهلها. برأيهم، فإنّ "الكلمة الفصل" يجب أن تكون للمسيحيين في هذا الاستحقاق، تمامًا كما أنّ المسلمين السنّة يعيّنون رئيس الحكومة والمسلمين الشيعة يعيّنون رئيس المجلس النيابي دون أن يسائلهم أحد.

القصة قصة "مصالح"..

وإذا كان هذا النقد "بنّاءً"، فإنّ انتقاداتٍ أخرى ووجه بها الاقتراح لا تبدو كذلك. ولعلّ أكثر هذه الانتقادات "إثارة"، برأي مقرّبين من تكتل "التغيير والإصلاح"، هو ذلك الذي يجاهر به "الخصوم" دون "حَرَج"، ومفاده أنّ الاقتراح "مفصَّلٌ" على قياس رئيس التكتل العماد ميشال عون، وأنّ الأخير لا يرى أمامه سوى كرسيّ الرئاسة، وبالتالي "يبتدع" القوانين للوصول إليها. قد يكون ذلك صحيحًا، ولكنه يعني أيضًا أنّ هؤلاء الخصوم يقدّمون، من حيث يدرون أو لا يدرون، "شيكاً على بياض" لـ"الجنرال"، ويقرّون له بأنه الأكثر شعبية، طالما أنّ قانوناً من هذا النوع سيوصله إلى قصر بعبدا.

من هذه الخلاصة، يصبح الأمر واضحًا. القصة ليست قصّة توقيت ولا نوايا. القصة مرتبطة بالمصلحة الآنية فقط لا غير من هذا الفريق وذاك، فيما المطلوب التفكير بمصلحة البلد العُليا أولاً وآخراً، مصلحة باتت للأسف الشديد في أدنى سلّم أولويات الطبقة الحاكمة، التي لا تزال "تكابر" على كلّ المخاطر المحدقة، أقله حتى هذه اللحظة...