السياسيون في سلبية، والناس في إيجابية، فما هذا الإنفصام السياسي الذي يعيش فيه السياسيون والناس تحت سقف بلدٍ واحد؟

هل في الأمر لغز؟

في ظاهر الأمور هناك لغز، لكن إذا نظرنا إليها بتعمق لوجدنا أنَّ المسألة ليس فيها أيُّ لغزٍ بل هي في وضوحٍ شديد، أما التفسيرُ لهذا الإنفصام فهو التالي:

يعيش السياسيون في سلبية لأنَّ ليس لديهم بدائل يتَّكئون عليها، أما الناس العاديون فيُغلِّبون الإيجابية على السلبية لأنَّهم استنبطوا البدائل في كلِّ شيء، لتسيير أمورهم اليومية، بحيث لا يتَّكلون على السياسيين أو على إدارات الدولة إلا في ما ندر. وهذا الإستبدال، أصبحوا خبراء فيه، منذ أيام الحرب، وما زال يرافقهم حتى أيامنا هذه.

في أيام الحرب استعاضوا عن النوم في منازلهم بالنوم في الملاجئ، فكانوا يستفيقون باكراً لتفقّد المنازل، ثم يتوجهون إلى أعمالهم ومكاتبهم وكأنَّ شيئاً لم يكن.

في المكاتب اعتمدوا على أكياس الرمل التي تحمي الواجهات والمنافذ، فكانت القذائف تنزل والناس يعملون وراء أكياس الرمل. لم تستطع القذائف قهر عزم وعزيمة اللبنانيين، فكانوا يُمضون نهارهم خلف أكياس الرمل في المكاتب، ليعودوا مساءً إلى الملاجئ، وهكذا دواليك واستمرَّتِ الحياة إلى حين توقُّف الحرب.

حين كان الناس يقومون بهذا النضال المدني اليومي، لم يكونوا يتلفَّتون إلى ما يقوله هذا السياسي أو ذاك، بل كانوا يركِّزون على كيفية إستمرارية الحياة وديمومتها، بصرف النظر عن نظريات السياسيين.

نهج البدائل الذي انتهجه اللبنانيون خلال الحرب، يبدو أنَّه مستمرٌ وسيستمرُّ في مرحلة السلم، وفي أيامنا هذه بالتحديد:

لم يتفاءلوا بوعود الكهرباء فاحتفظوا بمولِّداتهم الخاصة.

لم يتفاءلوا بالخطوط الهاتفية الثابتة فأكثروا من الخطوط الهاتفية الخلوية.

لم يتفاءلوا بتوافر المياه فأمَّنوا البدائل من خلال الآبار الإرتوازية.

حتّى أنَّ كثيرين منهم كانوا يواجهون المصاعب بسبب جوازات سفرهم، فعمدوا إلى اعتماد نهج البدائل، من خلال توفير جواز سفرٍ آخر. فيمم اللبنانيون وجوههم شطر كندا وأوستراليا وغيرها من الدول بحثاً عن جواز ثانٍ يُسهِّل عليهم أسفارهم.

هذا هو اللبناني بإيجابيته وحيويته، هو لا ينتظر ما سيقرِّره السياسيون بل هو يبادر من تلقاء نفسه، وفي هذه الحال لا يتلفَّت اللبناني العادي إلى الإشكالات السياسية والمناكفات والمماحكات، بل يُكمِل حياته ويومياته لأنَّه متيقِّن من أنَّ هذا البلد لم يقُم ولن يقوم ولا يقوم على أكتاف الإدارة العامة ومؤسسات الدولة، بل على أكتاف القطاع الخاص والمؤسسات الخاصة، هكذا كان في الحرب، وهكذا هو اليوم من دون زيادةٍ أو نقصان.

اليوم ومن علامات الإيجابية لدى الناس والسلبية لدى السياسيين، أنَّ المواطن العادي لم تعد تهمُّه الإستحقاقات لأنَّه اعتاد أن يعيش من دونها:

فتشكيل الحكومة يستهلك سنةً وأكثر، والمواطن لا يبالي!

يتمُّ الإستعداد للتمديد للمجلس النيابي، والمواطن لا يبالي!

هذه اللامبالاة أصبحت عادةً عند اللبنانيّ لن يغيِّرها إلا عندما تصبح الدولةُ دولةً بكلِّ معنى الكلمة، فعندئذٍ يفتخر بانتمائه إليها، أما عدا ذلك فسيبقى المواطن العادي يعيش على نهج البدائل حتى إشعارٍ آخر.