في مثل هذه الأيام من العام 1982، عندما كان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يغادر عاصمة العروبة، بيروت، إثر صمود أسطوري في وجه العدو الصهيوني بعد اجتياح لبنان، وقف ليقول ردّاً على سؤال وُجِّه إليه قبل الصعود إلى البارجة الفرنسية المتوجّهة إلى تونس: إلى أين يا "أبو عمّار"؟، فأجاب: "عَ القدس رايحين شهداء بالملايين".

وبعد 12 عاماً عاد "أبو عمّار" إلى غزّة (1 تموز 1994) ليعلن عن البدء بتنفيذ قيام الدولة الفلسطينية على أرض الواقع.

كم هي الصورة شبيهة اليوم بالأمس، حيث يعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن" وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، بعد الانتصار التاريخي للصمود والمقاومة الفلسطينية، في الميدان، وسياسياً عبر المفاوضات غير المباشرة في القاهرة، وفي تحقيق المزيد من المكتسبات في "الأمم المتحدة" والمحافل الدولية.

بين الصمود الأسطوري اللبناني – الفلسطيني في بيروت صيف العام 1982، والصمود الأسطوري الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية والقدس متجانساً مع دعم الفلسطينيين في الشتات، أُفشِلَ المخطّط الإسرائيلي، وتحقّق الصمود الفلسطيني، بل الانتصار التاريخي، الذي يُعتبر خطوة على طريق القدس، وتجسيد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

وعلى الرغم من الخسائر البشرية والمادية والاقتصادية الجسيمة، ومعاناة الحصار الإسرائيلي، ودك آلته الحربية على مدى 51 يوماً لقطاع غزّة بمختلف أنواع الأسلحة، إلا أنّ شلال الدم الفلسطيني الذي امتزج بسقوط 2145 شهيداً وأكثر من 11 ألف جريح، غالبيتهم من المدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ، صمد وأفشل بنك الأهداف الإسرائيلي، بل حوّل اللحظة المفصلية والتاريخية، إلى لحظة حاسمة، يجب البناء عليها، بأنّ ما بعد العدوان على غزّة، ليس كما قبله.

** فلسطينياً، يُسجّل في جانب الإنجازات:

- نجاح المقاومة العسكرية العملانية في قطاع غزّة بإيصال صواريخها إلى أماكن لم يتوقّع العدو أنْ تصل إليه، بما في ذلك "مطار بن غوريون"، الذي توقّفت فيه الملاحة للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، ومحيط المنشآت النووية الإسرائيلية ومحطات الغاز، وكل ما يهدّد الاقتصاد الإسرائيلي.

- الإنجاز السياسي، الذي تمثّل بوحدة الموقف بين مختلف القوى السياسية، وهنا يبرز دور الرئيس عباس، الذي يُقرُّ له الجميع بأنّه كان رئيساً لكل الشعب الفلسطيني، ولم يكن لفريق دون آخر، على الرغم من محاولات الاستهداف السياسي، والقنص والقصف من بعض الفرقاء العرب والإقليميين، الذين كانوا يضعون العصي والعراقيل في درب جهوده السياسية والدبلوماسية، ليس لشيء إلا لأنّهم يريدون تحقيق مصالح خاصة على حساب القضية الفلسطينية.

- إصرار الرئيس الفلسطيني على أنّ "المبادرة المصرية" هي الحل الوحيد لوقف العدوان على قطاع غزّة، وهو ما نادى به منذ الأيام الأولى للعدوان، وتحقّق، وكانت نتيجته توقّف العدوان.

- تشكيل الرئيس "أبو مازن" وفداً فلسطينياً مشتركاً يمثّل الفصائل والقوى الفلسطينية، بما في ذلك حركتَيْ "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وهو ما وجّه صدمة قوية للكيان الإسرائيلي، الذي كان يسعى إلى إيجاد انقسام بعد النجاح الفلسطيني بتشكيل "حكومة الوفاق الوطني" برئاسة الدكتور رامي الحمد الله (2 حزيران 2014).

- وحدة قوى المقاومة الفلسطينية بكافة كتائبها، والتي كانت على أعلى درجة من التنسيق في ما بينها.

- عدم قدرة الاحتلال على تحقيق بنك أهدافه، لعدم معرفته الدقيقة لأماكن الأنفاق التي حفرتها المقاومة، وعدم إمكانية تدميرها بأكملها.

- فشل الاحتلال باستهداف قادة الصف الأول في المقاومة، الذين خرجوا سالمين بعد وقف العدوان.

- عدم التمكّن من وقف إطلاق صواريخ المقاومة، التي كانت تنهال على المستعمرات والمنشآت الإسرائيلية إلى حين وقف إطلاق النار.

- كشف العديد من عملاء الاحتلال، الذين أعدمت المقاومة منهم 18 عميلاً.

وفي نتيجة ما تحقّق من إنجازات فلسطينية، تقرر: فتح المعابر وإدخال المساعدات الإنسانية والاغاثية، ومواد إعادة إعمار قطاع غزّة، والتي ستتم تحت إشراف "حكومة الوفاق الوطني"، والسماح بمنطقة صيد إلى مسافة 6 أميال، وإلغاء المنطقة العازلة في محيط غزّة، وانسحاب الآليات العسكرية للاحتلال من محيط القطاع.

** إسرائيلياً، فقد صُدِمَت جبهة الكيان الإسرائيلي بالنتائج السلبية للعدوان على قطاع غزّة، لجهة:

- الأضرار التي مُنِيَ بها جيشه، الذي قتل منه 65 بين ضابط وجندي (من بين 70 قتيلاً إسرائيلياً)، واصابة 2300 إسرائيلي بجراح مختلفة، فضلاً عن أسرى أحياء أو جثثاً.

- وصول صواريخ المقاومة إلى مناطق كان يعتبرها الاحتلال بمأمن، دون أنْ تتمكّن "القبة الحديدية" من اعتراض هذه الصواريخ أو منع إطلاقها.

- انهيارات جديدة أضيفت إلى الواقع الاقتصادي المتأزم أصلاً، حيث فاقت تقديرات الخسائر 4.6 مليار دولار أميركي.

- بدء "ترانسفير" للمستوطنين من المناطق التي باتوا يعتبرونها في خطر، وهو ما يُمكن أنْ ينسحب أيضاً على العديد من المستوطنات في الضفة الغربية!

- ارتفاع حدة الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية، المنقسمة أساساً في ما بينها، واحتمالات تأثير ذلك على المرحلة المقبلة، التي ستكون لها تداعيات سلبية على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، دون استبعاد إجراء انتخابات مبكرة.

** مصرياً، فقد بذلت مصر مساعيها العادلة، ونجحت في أنْ:

- تثبت أنّها قلب العروبة النابض، وأنّ الرئيس المصري الفريق أول عبد الفتاح السيسي، بدأ قيادة مصر نحو خارطة طريق جديدة مدعوماً من المملكة العربية السعودية والمخلصين في العالم العربي، حيث استطاعت مصر تحقيق وقف العدوان على قطاع غزّة، وإن كانت تخوض مفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أنّ دم العروبة كان مع غزّة، على الرغم من الخلاف في وجهات النظر، بين القيادة المصرية وحركة "حماس".

- تغاضي الرئيس المصري عن بعض الكلمات "النابية" التي أطلقها بعض المسؤولين الإقليميين، ممَّنْ يريدون تحقيق مكتسبات على حساب الدماء الفلسطينية.

- الفصل منذ البداية بين الحقوق الفلسطينية المتوجّبة على سلطات الاحتلال الإسرائيلي لجهة فتح المعابر والميناء والمطار، وقضية معبر رفح، المتعلّقة بين الجانبين المصري والفلسطيني، الذي وفق مصادر مضطلعة كان من المقرّر أن يتم توقيع اتفاق حوله (25 تموز الماضي)، لكن العدوان حال دون ذلك.

انتصار جديد حقّقته فلسطين، يكاد يُشكّل منعطفاً هامّاً في ظل الفرقة والانقسام والانشغال العربي في القضايا الداخلية، وشبيهاً بما تحقّق في معركة الكرامة (21 آذار 1968)، حيث سجل أوّل انتصار على العدو الإسرائيلي بعد هزيمة حزيران 1967، وها هو الانتصار الفلسطيني يُحفر في الصخر بدماء الشهداء والجرحى والمقاومين والأسرى والمناضلين الداعمين للقضية الفلسطينية، التي عادت لتكون قضية العرب المركزية الأولى.

هذا فضلاً عن المكتسبات الفلسطينية التي تحقّقت بعد قبول عضوية دولة فلسطين – عضو مراقب في "الأمم المتحدة" - بالتوجّه إلى المزيد من الهيئات والمنظمات الدولية، بما في ذلك "محكمة الجنايات الدولية".

وقد أشاد رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" عزام الأحمد لــ "اللـواء" "بدور مصر في إدارة المفاوضات، وهي التي ستتابع تنفيذ ما يتعلّق بالاتفاق، والمفاوضات اللاحقة"، مؤكداً "أنّ الفلسطينيين رفضوا مبدأ التهدئة مقابل التهدئة، ونجحوا مع الجانب المصري بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وتحميل الاحتلال مسؤولية جرائمه".

وأوضح الأحمد "أنّ إدخال المواد الإنسانية وإعادة الاعمار إلى قطاع غزّة، سيكونان من خلال "حكومة الوفاق الوطني"، وأنه سيعقد في جمهورية مصر العربية، مؤتمر دولي للمانحين من أجل إعادة اعمار القطاع خلال شهر أيلول المقبل".