منذ اربع سنوات، وقبل اندلاع ما عرف لاحقاً بتسمية "الربيع العربي"، جمعت احدى المقار الأسقفية في بلد عربي مجاور، مجموعة من الناشطين السياسيين المسيحيين من سوريا والعراق والأردن ولبنان، للتباحث في الهم المشترك، ومحوره الحضور في الدولة والمشاركة الفاعلة في النظام، والمحافظة على الوجود. يومها، كان العراق "قلب الحدث"، وهو يترنّح بين ازماته السياسية واضطراباته الأمنية، ما دفع بأحد المشاركين اللبنانيين، ممن اختبروا التحولات اللبنانية منذ ما قبل حرب العام 1975 وخلالها وبعدها، الى دعوة الأحزاب المسيحية العراقية الى تشكيل مجموعات مسلّحة للدفاع عن المقدسات. سقط الاقتراح يومها...ليجد المسيحيون انفسهم اليوم، وفي العراق تحديداً، ضحية السقوط الكبير والهجرة.

في لبنان، تتحدّث الأرقام عن أكثر من عشرة آلاف عائلة عراقية مسيحية حملتها فتوحات داعش للهرب الى لبنان، تاركة وراءها كل شيء، بعدما صودر المسكن او دمّر، وبقيت الأرزاق عرضة للنهب والحرق والتحويل الى ملكيات "للدولة الإسلامية". جاءت هذه العائلات بما حملته من مآس الى وطن، يعاني ما يعانيه اصلاً من اضطرابات سياسية وامنية، فوجدت الكنيسة نفسها مضطرة الى التحرّك لاستقبال النازحين وايوائهم، وتأمين المأكل والمشرب والطبابة للآلاف. وفي الواقع، انطلقت المبادرات الاجتماعية لجمع التبرعات، وباتت مراكز استقبال وتسجيل النازحين، التابعة للكنائس المختلفة، المعروفة بالأقليات المسيحية، من سريان وكلدان وآشوريين، قبلة للراغبين بتقديم المساعدة من جهة، ومقصداً للباحثين عن تسهيلات تسهم في تأمين الحد الأدنى من العيش الكريم، الى أن يحين موعد العودة الى الوطن الأم.

لكن المفاجأة التي يتحدّث عنها المتابعون لهذا الملف تتلخّص في الآتي: ففي ضوء تسهيلات الترغيب من عدد من البلدان الغربية، وأميركا الشمالية، هناك مجموعة كبيرة من الوافدين تفضّل تذكرة الهجرة، على بطاقة العودة الى ارض الأجداد. وتشير المعطيات الى أنه ومنذ الدخول الأميركي الى العراق، وسقوط صدام حسين، فإن آلاف المسيحيين العراقيين استحصلوا على تأشيرات هجرة الى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والسويد، لينضموا الى من سبقهم في الهجرة الأولى منذ السبعينيات، حيث باتت للجاليات العراقية نتيجة ذلك، تجمّعات ومصالح اقتصادية ووسائل اعلام وأندية حتى، والعديد من بينهم اصبح يمتلك محطات للمحروقات او متاجر كبرى. واليوم، وعلى وقع المخاطر المهددة للوجود، هناك من يفضّل الغربة على العودة، "طالما أن الوجود الحر الكريم غير مؤمّن هنا".

وفي هذا السياق، يتحدّث العديد ممن رافقوا بطاركة الشرق الى أربيل، عن أن همّهم الأساس كان العمل على تثبيت من تبقى في ارضه. فصحيح أن المآسي كبيرة، وأن "يلّي ايدو بالمي مش متل يلّي ايدو بالنار"، ولكن الارتباط المحوري والجوهري، يبقى بين الأرض والهوية، ومن فقد ارضه، فقد مع الوقت حضوره وهوّيته وعاداته وتقاليده ودوره. سمعوا ممن التقوهم "هذا العراق ليس عراقنا، لم يعد لنا، ما علينا سوى الرحيل".

ما العمل اذاً؟ يتفهّم المعنيون بمتابعة الوضع المسيحي هذه المخاوف، لذلك يرون أن العلاج يجب الاَ يقتصر فقط على توصيف الداء، بل والأهم، الانتقال الى إعطاء الدواء المناسب. من هنا، هناك حاجة الى "سينودس إسلامي" ينبذ التكفير، ويعلي الصوت في وجه داعش واخواتها. فبحسب المعنيين، يشكّل الصمت مشاركة في نحر الحضور، والاكتفاء بالبيانات والاستنكارات الإعلامية، تخاذلاً امام حماية التنوّع والتعددية في المنطقة. "نعم هناك حاجة لحرب دولية على الإرهاب، ولكن أحد خطواتها الأساسية، يجب ان تمر باحترام الدور والحضور، وضمان المشاركة والاقتناع بالشراكة، وبفتاوى تصدر عن (الإسلام المعتدل) لتحريم التكفير والاعتداء على كل من هو مختلف بالفكر". وقد ترجم هذا التوجّه في البيان الأخير لبطاركة الشرق الداعي الدول العربية الى " تجريم الاعتداء على المسيحيين وممتلكاتهم وكنائسهم في تشريعاتها الوطنية".

ما الفارق بين الغاء الجسد وإلغاء الدور؟

يقود هذا الكلام الى الواقع اللبناني حيث يرتفع هذه الأيام السؤال التالي: "ما الفرق بين داعش التي تقطع الرؤوس للالغاء الجسدي، وبين أي مجموعة سياسية او مذهبية تحذف الحق بالتمثيل والاختيار والمشاركة الفاعلة في الحكم؟. فاذا كان البحث عن تشريع يحرّك الاعتداء الجسدي والمعنوي، ففي لبنان تشريعات دستورية تحقق المناصفة الفعلية والشراكة الحقيقية، لم تطبّق منذ سنوات".

من هنا، يتصاعد الهمس في سياق البحث عن صناعة الدور في لبنان، عن عقود من التغييب والتهميش، وعن سنوات من تعيين الرؤساء والحكومات والمجالس النيابية، المتساوية على الورق، غير المتوازنة في واقع التمثيل الشعبي السليم والفعلي". ما يطرح السؤال حول توافر الإرادة الفعلية لدى مختلف المكونات السياسية والمذهبية اللبنانية، لوضع حد فاصل بين الماضي والحاضر، لبناء المستقبل القائم على المساواة بالحقوق والواجبات تحت سقف القانون.

وعلى عكس المنحى التيئيسي لدى البعض على المستويات كافة، الاّ أن المعلومات تتحدّث عن مقاربة واضحة وفاعلة لدى مجموعة من الأوساط السياسية والكنسية، تقوم على ضرورة تفعيل الحراك المسيحي، وعدم الاستسلام للأمر الواقع القائم على الانتظار او الرضوخ او المسايرة، بل المبادرة وطرح الأفكار ورفع الصوت والسعي الى التطبيق.

يدرك أصحاب هذه النظرية أن الانتقال من حالة الى أخرى لا يتم بين ليلة وضحاها، ولكن الوقت يبدو مناسباً في ظل ما يحدث، لخطوات عملية تحمي التعددية في لبنان، وتعلن التمسّك بالدستور القائم على المناصفة والحقوق، وهو ما يحتاج الى وعي مسيحي من جهة، وقناعة وتجاوب إسلامي من جهة أخرى، لأن الضرر لن يقتصر على شريحة دون الأخرى.

بالعودة الى اللقاء الذي عقد قبل سنوات، فقد احتضنته مدينة حلب السورية، ومطرانية حلب للسريان الأرثوذكس تحديداً، والتي يبقى مطرانها يوحنا إبراهيم اليوم، عرضة للاختطاف الى جانب مطران حلب للروم الأرثوذكس بولس الياذجي. في ضوء هذا المشهد، هناك من يقول "حبّذا لو يقتنع المعنيون في الوسط المسيحي بضرورة صناعة الدور، والمبادرة قبل فوات الأوان. وحبذا لو يتجاوب الغرب والإسلام المعتدل، والاّ فسيكون كبيلاطس البنطي الذي غسل يديه...امام نحر المسيحيين في لبنان والشرق".