بات تنظيم "الدولة الإسلامية"، في الأشهر الأخيرة، الشغل الشاغل لمختلف الأوساط على الصعيدين الإقليمي والدولي، وترى الدول البعيدة عن دائرة الصراع القائم اليوم، في سوريا والعراق، أن "داعش" تشكل خطراً قومياً عليها، باستثناء لبنان، الذي تنقسم فيه القوى السياسية في تقييمها لخطره، حيث يرى البعض أن من الممكن تجنيب لبنان عمّا يحصل، لا سيما عبر الإلتزام بسياسة "النأي بالنفس"، على إعتبار أن هذا التنظيم ليس له أيّ أهداف في لبنان اذا ما أراد هذا الأخير أن يكرر التجربة السويسرية في الحياد.

نظرية "الحياد السويسري" ترتبط بداية بهزيمة "تحالف الكانتونات" السويسرية في معركة مارينيان عام 1515، لكن البعض يشير إلى أن جذورها تعود إلى القرن السابع عشر، وبالأخص إلى معركة ويستفاليا التي وضعت حداً لحرب الثلاثين عاماً، والتي تم فيها الاعتراف من قبل القوى العظمى آنذاك بـ"الحياد السويسري"، الذي لم يُعترف به رسمياً إلا في عام 1815 من قبل مؤتمري فيينا وباريس، ولكن هل كانت "داعش" مستعدة لقبول مثل هذا الأمر في الوقت الراهن بالنسبة إلى لبنان، وهل هي دولة فعلية يمكن الركون إلى تعهداتها؟

عندما كانت "الدولة الإسلامية" عبارة عن جناح في التنظيم الأم "القاعدة"، تحت إسم "الدولة الإسلامية في العراق"، كان من الممكن القول أن ليس لها أهداف توسعيّة باتجاه لبنان، إنما "القاعدة" بالتأكيد كان لها هذه الأهداف، لكن بعد أن قرر التنظيم الأول التمدد نحو الأراضي السورية ليصبح "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، ومن ثم إعلانه "الدولة" ومبايعة زعيمه أبو بكر البغدادي "خليفة" على المسلمين، لم يعد من الوارد البقاء في دائرة الجدل غير المفيد.

"داعش" ليس إلا واحداً من بين العشرات، لا بل المئات من التنظيمات "الجهادية"، التي من الممكن معرفة الأفكار والأهداف التي تحملها من خلال الإطلاع على بعض المراجع الخاصة بها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتابي "معالم في الطريق" لسيد قطب و"ملة إبراهيم" لأبو محمد المقدسي، وحتى أن ما يقوم به من جرائم مبرره "الشرعي" موجود في أحد كتب أبو عبد الله المهاجر "فقه الدماء"، وهو من الكتب التي أوصى بتعليمها للمقاتلين مؤسس التنظيم أبو مصعب الزرقاوي، وبالتالي من الممكن معرفة مدى إمكانية التزامه بسياسة "النأي بالنفس" بكل سهولة، وبعيداً عن التجاذبات السياسية غير المنتجة.

في كتابه المذكور، يشير المقدسي إلى أن "من أخص خصائص ملّة إبراهيم ومن أهم مهماتها التي نرى غالبية دعاة زماننا مقصرين فيها تقصيراً عظيماً بل أكثرهم هجرها وأماتها: إظهار البراءة من المشركين ومعبوداتهم الباطلة، وإعلان الكفر بهم وبآلهتهم ومناهجهم وقوانينهم وشرائعهم الشركية، وإبداء العداوة والبغضاء لهم ولأوضاعهم ولأحوالهم الكفرية حتى يرجعوا إلى الله، ويتركوا ذلك كله ويبرأوا منه ويكفروا به".

وفي مكان آخر، يرفض المقدسي القول أن "ملة إبراهيم مرحلة أخيرة من مراحل الدعوة، يسبقها البلاغ بالحكمة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يلجأ الداعية إلى ملة إبراهيم هذه من البراءة من أعداء الله ومعبوداتهم والكفر بها وإظهار العداوة والبغضاء لهم إلا بعد استنفاذ جميع أساليب اللين والحكمة"، ويعتبر أن "هذا الإشكال إنما حصل بسبب عدم وضوح ملة إبراهيم لدى هؤلاء الناس، وبسبب الخلط بين طريقة الدعوة للكفار ابتداء وطريقتها مع المعاندين منهم".

أما سيد قطب، فيرى أننا "اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم. كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم. حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً.. هو كذلك من صنعت هذه الجاهلية".

وبعيداً عن الدخول في تفاصيل هذه الأفكار والأهداف، التي تحملها مراجع هذه التنظيمات، ينبغي التأكيد أن الجنسية في مفهومها هي العقيدة، وأن هدفها محاربة كل "الطواغيت"، أي الحكام، الذين تعتبرهم مع المجتمعات التي يعيشون فيها "كفاراً"، وتعتبر أن من واجب كل "مسلم" محاربتهم، لا بل بعضها يذهب إلى تكفير من لا يؤمن بذلك، ولا تحصر أهدافها في إقليم أو دولة معينة.

و"داعش" ليست بعيدة عن ذلك، هي تطالب المسلمين في كل أنحاء العالم بإعلان "البيعة" لـ"الخليفة" إبراهيم، ولا تعتبر أن هناك ما يحول دون ذلك بعد إعلان "الدولة"، ومن أجل الدلالة على ذلك من الممكن الإشارة إلى أن هناك الكثير من التنظيمات، التي كانت تدور في فلك "القاعدة"، في أكثر من مكان في العالم أعلنت "مبايعتها" البغدادي، ومن لا يقوم بذلك، بحسب أفكار هذا التنظيم، توجب محاربته عندما تسمح الأوضاع بذلك، وهي أيضاً تعتبر أن حربها لن تنتهي إلا بفرض حكمها على كل دول العالم.

أما بالنسبة إلى لبنان، فإن الخارطة التي أعلنها التنظيم، كما أفكاره، لا تستثنيه من ضمن أهدافها، وبالتالي لا يمكن القول أن اللبنانيين يستطيعون أن يطلبوا من قياداته في أي لحظة الإلتزام المتبادل بسياسة "النأي بالنفس"، فـ"الحياد السويسري" لا يقبل به هذا التنظيم، ولا يمكن أن يقبل به في أي يوم من الأيام، فهو يتبنى ما يقوله سيد قطب حرفياً: "إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه الا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية، ورضى أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها".

بالإضافة إلى كل ذلك، يمكن العودة إلى الكثير من القرارات القضائية والقرارات الإتهامية التي توجه الإتهام إلى العشرات من اللبنانيين والمقيمين بالإنتماء إلى التنظيمات الإرهابية، سواء كانت "داعش" أو "النصرة"، من أجل التأكيد على نظرة هذه التنظيمات إلى لبنان، بالإضافة إلى وجود مقاتلين لبنانيين في صفوفها، ناهيك عن بعض الإنتحاريين الذين نفذوا عمليات في سوريا والعراق.

في المحصلة، عندما تعلن الولايات المتحدة الأميركية، وغيرها من الدول الأوروبية، أن هذه التنظيمات تمثل خطراً كبيراً على أمنها القومي، لا يمكن أن يلتزم لبنان سياسة النأي بالنفس، خصوصاً أن هؤلاء موجودون على حدوده، ومن الممكن أن يصبحوا داخله خلال ساعات قليلة، ولا يمكن أن يكون هناك من لا يتذكر ما حصل في ​عرسال​ مؤخراً.